رياض سعد
كما عوّدناكم ضمن سلسلة «مقولة وتعليق»، نتناول إحدى المقولات الشهيرة بالشرح والتحليل والتعليق ، وفي هذا السياق نعرّج اليوم على واحدة من مقولات الأديب ألبرتو مورافيا… ؛ اذ قال : ((أليسَ من المضحك، أن أزماننا ستُسمّى في وقتٍ ما بالأزمان القديمة الطيّبة؟ ))
بهذه المقولة القصيرة، يضع ألبيرتو مورافيا إصبعه على مفارقةٍ إنسانيةٍ عميقة، مفارقة لا تتعلّق بالزمن وحده، بل بطريقة وعينا به، وبآليات الذاكرة، وبحاجتنا النفسية والاجتماعية إلى إعادة ترتيب الألم حين يصبح بعيدًا بما يكفي... ؛ وهذا يذكرنا بالقول المنسوب الى الامام علي : (( رُبَّ يومٍ بكيتُ منه، فلما صرتُ في غيرِه بكيتُ عليه )) *.
ليست السخرية هنا ضحكًا عابرًا، بل ضحكًا فلسفيًا مرًّا، ضحك من يعرف أن الإنسان لا يتصالح مع واقعه إلا بعد أن يفقده , أو قد يكون العكس فما ان يخرج المرء من أمسه السيء حتى يحن اليه بحجة يومه الأسوء … ؛ فالأزمنة التي نعيشها اليوم، بما تحمله من قلق وضجيج وتفكك وقسوة، تبدو لنا عصيّة على الوصف بالطيبة… ؛ نحن نراها مثقلة بالأزمات، مشبعة بالخيبات، متسارعة إلى حدّ الاختناق… ؛ ومع ذلك، يؤكد مورافيا — بسؤال استنكاري لا يخلو من تهكم — أن هذه الأزمنة ذاتها ستتحول في وعي الأجيال القادمة إلى «ماضٍ جميل»، إلى زمنٍ يُحنّ إليه، ويُستعاد بوصفه أبسط، أصدق، وأكثر إنسانية...!!
فلسفيًا، تكشف المقولة عن وهمٍ متجذّر في علاقة الإنسان بالزمن: وهم الموضوعية… ؛ نحن لا نحكم على الأزمنة كما هي، بل كما نشعر بها ونحن غارقون فيها… ؛ فالحاضر دائمًا فادح، لأنه زمن العيش لا زمن التأمل والتحول … ؛ إنه زمن الجرح المفتوح، لا الندبة… ؛ أما الماضي، فيخضع لإعادة صياغة هادئة، تُقصى منها التفاصيل المؤلمة، ويُحتفظ بما يمكن احتماله أو تجميله من صور وذكريات … ؛ وهكذا لا يعود الماضي حقيقة تاريخية، بل بناءً نفسيًا انتقائيًا... .
اجتماعيًا، تحمل المقولة نقدًا مبطنًا لخطاب «الزمن الجميل» الذي يتكرر في كل عصر… ؛ فكل جيل يلعن حاضره، ويمجّد ما سبقه، ناسياً أن من عاشوا ذلك الماضي كانوا بدورهم يشكون، ويتمردون، ويحلمون بزمنٍ أفضل… ؛ إنها حلقة مغلقة من الحنين المتوارث، حنين لا يقول شيئًا دقيقًا عن الماضي، بقدر ما يفضح خيبة الحاضر… ؛ فحين نعجز عن تغيير واقعنا، نلوذ بتقديس ما مضى، لا لأنه كان أعدل، بل لأنه انتهى، ولم يعد قادرًا على إيذائنا.
نعم ، تتحول هذه الظاهرة إلى خطاب متكرر، يكاد يكون طقسًا: «زماننا غير زمانكم»، «كانت النفوس أنقى»، «كانت العلاقات أبسط»… ؛ لا يُقال هذا لأن العلاقات كانت فعلًا أكثر عدلًا، بل لأن تعقيد الحاضر يفضح هشاشتنا أمامه… ؛ فكل تقدم يحمل معه تعقيدًا، وكل تعقيد يولد حنينًا إلى بساطة متخيلة… ؛ وهكذا، فقد لا يُدان الحاضر لأنه الأسوأ، بل لأنه الأكثر انكشافًا... ؛ كما اسلفنا .
الأخطر في هذه الحالة أن تقديس الماضي غالبًا ما يُستخدم أداةً لقمع الحاضر… ؛ فحين يُرفع الماضي إلى مرتبة المثال، يُدان أي سعي للتغيير بوصفه انحرافًا، وتُقدَّم المعاناة الراهنة كقدرٍ لا مفرّ منه، أو كدليل على انحطاط القيم… ؛ و بذلك، يتحول الحنين من حالة نفسية مفهومة إلى موقف اجتماعي معيق، يُعطّل النقد الحقيقي، ويستبدله بالبكاء على أطلال منتقاة بعناية... .
أما نفسيًا، فالمقولة تلامس إحدى آليات الدفاع الأساسية في الإنسان: إعادة كتابة الذاكرة… ؛ فالعقل البشري لا يحتمل الاستمرار في استدعاء الألم الخام، لذلك يقوم، بمرور الزمن، بتخفيف حدّته، وإلباسه ثوب المعنى أو النوستالجيا… ؛ الزمن لا يجعل الأشياء أفضل بالضرورة، لكنه يجعلنا أقدر على احتمالها… ؛ وما نسمّيه «الأزمان الطيبة» ليس إلا أزمنة نجونا منها، وخرجنا منها أحياء، ولو مثقلين... ؛ فالعقل الإنساني، حين يبتعد زمنيًا عن التجربة، لا يحتفظ بها كما حدثت، بل كما يستطيع تحمّلها… ؛ الألم القريب حادّ، فاضح، لا يمكن تجميله… ؛ أما الألم البعيد، فيخضع لعملية ترويض: تُمحى حدوده القاسية، وتُختزل تفاصيله، ويُعاد تقديمه ضمن سردية أقل تهديدًا للذات. هكذا يتحول ما كان معاناةً يومية إلى ذكرى محتملة، ثم إلى حنين، ثم إلى «زمن جميل» كما اسلفنا .
هذه الآلية لا تعمل على مستوى الفرد فقط، بل تتضخم حين تصبح ذاكرة جمعية… ؛ فالمجتمعات التي تعجز عن حل أزماتها الراهنة تميل إلى صناعة ماضٍ مثالي، لا لتكريمه، بل للهروب إليه… ؛ فتمجيد الأزمنة المنقضية ليس علامة صحة، بل غالبًا عرضٌ من أعراض الإحباط الاجتماعي… ؛ حين يفشل الحاضر في تقديم الأمان والمعنى، يُستدعى الماضي ليملأ الفراغ، ولو كان ذلك الماضي مليئًا، في واقعه الحقيقي، بالظلم والفقر والقهر…!!
نعم , نحن لسنا شهودًا عادلين على عصرنا، لأننا نعيش داخله… ؛ نحن نراه من شقوق التعب، من زوايا الخوف، من الضغط اليوميّ… ؛ أما من سيأتي بعدنا، فسيراه من مسافة آمنة، مسافة تسمح بالابتسام، وبإطلاق صفة «الطيب» على ما كان، في حقيقته، صعبًا وقاسيًا، لكنه — على الأقل — أصبح منتهيًا.
وهنا تكمن سخرية مورافيا العميقة: ليس المضحك أن يُساء فهم الماضي، بل أن يُعاد تزييف الحاضر مستقبلًا، وأن يتحول وجعنا الحالي إلى مادة حنين، بينما كنّا فيه نبحث فقط عن نجاة… ؛ فكل زمن يُلعن وهو قائم، ويُقدَّس وهو منقضٍ، وكأن الطيبة لا تسكن الأزمنة، بل المسافة التي تفصلنا عنها… !!
فالسخرية هنا ليست لغوية ولا أسلوبية، بل سخرية الوعي حين يكتشف أنه محكوم بتشويه الزمن، سواء عاشه أو استعاد ذكراه… .
إنها مقولة تذكّرنا، بمرارة هادئة، أن التاريخ ليس سجلًّا للحقيقة، بل دفتر مشاعر مؤجلة، وأن الإنسان، في نهاية الأمر، لا يشتاق إلى زمنٍ كان أفضل، بل إلى ذاته حين كانت أقل وعيًا بثقل العالم.
وفي هذا السياق، تصبح مقولة مورافيا أكثر من مجرد ملاحظة ذكية؛ إنها تحذير… ؛ تحذير من أن الزمن لا يُصبح «طيبًا» إلا بعد أن نفقد قدرتنا على مساءلته… ؛ فالماضي لا يطالبنا بشيء، لا يضغط علينا، لا يضعنا أمام مسؤوليات أخلاقية… ؛ هو صامت، مطواع، نقول فيه ما نشاء دون أن يعترض… ؛ أما الحاضر، فهو فظّ، مزعج، يطالبنا بالفعل، ولهذا نكرهه.
…………………………..
*ونسبت لابي العتاهية والحسن البصري ايضا .