فوزي كريم حاوره في لندن علي عبد الامير
*”المعاني السود” تلك التي لاحت في ديوان “عثرات طائر” وجعلتك تغادر العراق، أهي التي ما تزال تملؤك ألماً وشوقاً في آن، حين تستحضر صورة البلاد؟
صورة المشرد البهلول الباحث سدى عن الحقيقة كانت وما تزال تأسرني، لا داخل الأفكار وتاريخها ولا داخل النص الشعري وحدهما، بل في الأشخاص والحياة العامة، الرحيل والمنفى والتَيْه، فاعلية ملهمة وتراجيديتها نبيلة، خاصة بإستضاءة البعد الميتافيزيقي الذي فيها، كنت في أكثف ساعات الشباب الشعري أتطلع الى صدى خطوات المشرّد وهي تتردد ورائي وأنا أذرع أرصفة بغداد منشداً مع المنشدين من أصدقائي، أتأمل بروح المشفق لغو العقائد تتطاحن وراء واجهات المقاهي والمكاتب والمؤسسات، وأعجب كيف لا يصغون الى صرخة “دستويفسكي” في “الشياطين” والى نذير أبي العلاء.
مع السنوات، ومنذ أواسط الستينيات، كانت صورة ذلك المشرد الباحث سدى عن الحقيقة تنضج وتثرى، ويتضح ويثرى معه تطلعه الى البعيد، حالماً بالسفر وقطع الحدود، حدود البلاد وحدود الكلمة وحدود الجسد، سافرت الى بيروت بهذا الهاجس دون مقدمات ولا تهيئة، حتى إني لم أقدم استقالة وقد قطعت في وظيفة “مدرس” بضعة شهور لأني ما كنت أعرف أن الخروج من الوظيفة – كالدخول فيها – يحتاج الى طلب، في بيروت رأيت كثيرين من أبناء جيلي ممن خرج معي وأقام، كانوا ملتحقين جميعاً بالمقاومة الفلسطينية، وكانوا يحترسون جميعاً من سلطة البعث التي جاءت ثانية ولكن بوجه مبتسم، كنت معهم محترساً، الأمر الذي أعطى خطوات الباحث المشرّد شيئاً من خطوات الهارب.
حين رجعت الى بغداد (رجعنا جميعاً) عام 1972، بدأت خطوات المشرّد المعافاة تزدحم بالكبوات، وسحنته تعتم وهواؤه يفسد وليل سلطة الحزب الواحد يدخل ثيابه، وما من ملاذ وما من ملجأ، في سنة 76-77 تحوّل كل البحث والتطلع باتجاه الحقيقة المستحيلة، كل الحلم في السعي الى المجهول، كل تجوال المشرّد بلا هدف، الى مجرد هرب او محاولة هرب من المعاني السود التي نضجت بين يدي “سلطة الدولة” و “سلطة الشارع” العقائدي، واُلقيت كالأفاعي في أوجهنا، من داخل هذا الفزع قدرت ان أستبدل “خطوات البحث” بـ “خطوات الهرب” فهجرت العراق ليلاً عارفاً تماماً انني أبحر هذه المرة – وهي المرحلة البعيدة الوحيدة – “لا باحثاً سدى عن المعنى ولكن هرباً من المعاني السود”!
انني أحيا داخل الذاكرة من داخلها امتحن بحذر حاضري كله، أما بريطانيا، التي أقمت فيها منذ أواخر 1978، فلا أراها إلا مكتبة عظمى بهية ولا حدود لثرائها، تماماً كما تراءى “الفردوس” للكاتب “بورخيس”.
تكاد قصيدة فوزي كريم تتمثل القصيدة العربية الكلاسيكية في لغتها وبنائها غير انها إبنة وقتها وعذاباته في وقت واحد … أهذا الإنسجام عائد الى مفهوم خاص يتعاطى بموجبه فوزي كريم التراث وأسئلة الحداثة أيضاً؟
لا أعرف ما تقصد بتمثل القصيدة العربية الكلاسيكية في لغتها وبنائها، لعلك تقصد ان قصيدتي لم تغادر مجرى القصيدة العربية، الذي حفر مسيرة تطوره بصورة لم تنقطع عن الجذور، بهذا المعنى انا كذلك، شأن السيّاب وعبد الصبور وحاوي وسعدي يوسف والبريكان، إن قصيدتي اختمرت في الدنان القديمة وما زالت تجد في تلك الدنان الكثير الذي ينتفع منه، اللغة الشعرية والبناء تاريخيان يزولان مع زوال المراحل، هناك شيء جوهري في الشعر لا يزول تجده في النصوص الجاهلية، تجده عند أبي نواس وأبي العلاء، تجده في نثر أبي حيّان، ان عمق حداثتي انما يتعين بعمق حذري من الحداثة وارتيابي من الجدة، انني لا أقبل بكل ما يُقال عن – وبإسم – الحداثة والجديد كمسلّمات، ان في كل قصيدة تُكتب هناك إعادة كتابة للقصيدة التي أسهم كل شعراء الأرض في كتابتها، ما من جديد بالمعنى المطلق، إني جديد بمقدار ما انتفعت من الموسيقى، جديد بمقدار ما ألهمني العلم في فهم الإنسان، وجديد بمقدار ما فطنت إلى الإنسان وأولويته لا الفكرة وتعاليها عليه، اني جديد في هذا الذي “يتشكل” لا في الشكل والبُنية المجددين.
الإنكليزية أعطتني الكثير، أن لا اكتب صورة أو بيتاً أو حتى كلمة دون أن يكون ثمرة مسعى داخلي لقول ما لا يقال نثراً، الموسيقى أعطتني حرية أن اخرج من أسر ما هو زمني، الرسم أعطاني وعي أن التقط المرئي في لحظة من الزمان واثبته داخل إطار لا زمني، هذه الفاعليات المكتسبة تتم داخل كياني الشاعر وأنا أعبث في حقل الموروث الذي لا أغادره، هذه هي عناصر حداثتي.
*وماذا بشأن الجيل الستيني الذي تنتمي له؟
بشأن الجيل الستيني – جيلي – أحب أن أضع بين يديك مقدمة حول ظاهرته ثم بعدها أحدثك عن موقع قصيدته، اعتقد ان العقود الأولى من القرن العشرين كانت هي المرحلة الصحية الوحيدة في تاريخ حياتنا الثقافية، بدأت عافية هذه الثقافة تتلاشى بعد الخمسينيات، أي مع بدء مرحلة الثورات (أو الإنقلابات العسكرية التي ألغت مؤسسة الدولة) نشأت تحت ظِل السلطات وظِل فورتها الإعلامية، ثقافة جديدة، ثقافة رعتها السلطة وعززت معمارها، ولقد أسهم المثقفون في التأسيس والرعاية، ولكنهم، أيضاً، طعّموها بنفس عدم الرضا والتمرد والهجاء، ونمت هذه المواقف الرافضة في رحم تلك الثقافة وتحت مظلتها، تلك الثقافة لم تكن، شأن مرحلة النهضة، ثقافة خالصة، بل هي “ثقافة إعلام” جديدة نشأت بجهود المثقفين الثوريين والإنقلابات الثورية، وأول خصائص هذه الثقافة هو موقفها السلبي من المؤسسة، (الدولة، القانون، العُرف، الماضي والحاضر، الإنسان كفرد وكبُنية اجتماعية) وميلها الى الحرية، التي تلي الغاء القانون، والى الفكرة التي تعلو على الإنسان، والى المستقبل المفرغ من المعنى.
من خصائص ثقافة الإعلام هذه أيضاً، الهوة التي عززتها بين النص المكتوب وبين تجربة كاتبه الداخلية، لقد جعلت الثقافة والأدب بالونة للتجريب اللفظي والذهني، حولت الثقافة الأدبية والسياسية والفكرية الى مهرجان لمبادرات الجديد والمدهش والإستثنائي، وطبيعة هذه المبادرات عضلية في أكثرها، لا تمس الحياة التي بدأت تُعلن عن انحدارها بصورة منذرة، لا فرق في هذا بين المفكر الايديولوجي الذي يشرع لنظريات المجتمع العربي اللاطبقي، والشاعر الذي يكتب قصيدة على مقاس قصيدة مترجمة.
كان الجيل الستيني أول ثمرة ناضجة لهذه الثقافة “ثقافة الإعلام” التي بدأت في الخمسينيات، وخصائصها تتوزع على مبدعي هذا الجيل بصورة قد لا تكون متساوية.
قصيدة الستيني لم تفلت من قبضة هذه الخصائص، انها اندفعت في كل اتجاه (اتجاه فكرة التمرد والرفض، فكرة العدمية، الفكرة القومية أو ما تجاوز القومية..الخ) إلا اتجاه ذات الشاعر الداخلية، هناك أصوات حاولت ذلك ولكنها ضلت السبل، بسبب ضعف الموروث والعُرف الشعريين الذين يكفلان بقيادة الشاعر الى ذاته، ولكن هذه الأصوات حتى في ضلالها كانت اكثر صحية من غيرها.
“ثقافة الإعلام” أنشأت “صحافة الإعلام” التي أسهمت بدورها في إنشاء الشعراء والكتّاب، ثم أنشأت “مهرجان الإعلام” و “مؤتمرات الإعلام” و “مجلات الإعلام” و “دور نشر الإعلام” واعني بهذا الإعلام ثقافته، ثقافة الفكر والأدب والشعر والنقد والسياسة، ما من أحد يشعر انه ضل الطريق فما من طريق لأن الجميع يعيش بهواً فاسد الهواء منذ الخمسينيات، يعرف السر في الطيات السفلى من وعيه، ولكنه يداهن النفس ويعزيها بالشكوى، التي أعطتها “ثقافة الإعلام” طبيعة “الكليشيه”.
*وهل خرجت قصيدتك عن هواء هذا البهو، هل ازدادت عمقاً في قراءة الوقائع الحياتية، وابتعدت عن المباشرة والإنكشاف الفج أمام سطوة الحياة؟
هناك شعراء كثيرون وقصائد مفردة لشعراء آخرين تنفست هواء الشعر النقي خارج هذا البهو، منذ قصائدي الأولى في “حيث تبدأ الأشياء” كنت أشعر ان روحي تتنفس هواء غير هواء البهو، غير هواء التشبث بالعقائد العمياء التي أطبقت على الثقافة بصورة لا نظير لسطوتها، ولكن هذا الشعور كان سرياً الأمر الذي جعل قصيدتي المبكرة نصف مضاءة، بل ميالة الى الظل،، إن التعامل السري مع هواء الشعر النقي أمر يُملي أحزاناً لا مدى لعمقها، وهو، تحت هيمنة مناخ العقائد العمياء، مصدر خطر ومخاوف وعدم أمان أيضاً، حين خرجت الى بيروت (1969-1972) أنشدت الكثير من ذلك في قصائد “أرفع يدي احتجاجاً” قصائد روح شباب ملتاع يفتح ذراعيه لبحر المتوسط، راجع قصائد الديوان فلن تجد واحدة تفلت من خفقة جناح العراق الذي هجرته، وأقول لك ان هذا الجناح الشيطاني ما زال يخفق فوق وداخل كل القصائد التي تلت حتى اليوم، قلِّب صفحات الأعمال الشعرية (صدرت هذه الأيام عن دار المدى في جزئين) الى آخر صفحة منها فستلمس بأصابع اليد، ذلك.
*نَثر فوزي كريم لم يكن أقل موقعاً في نتاجه الكتابي من الشعر، كيف تنظر الى تعدد الأشكال الكتابية للشاعر وأنماط ملاقاته للقاريء، وهل تؤثر تلك الأشكال على كتابته للشعر؟
أعتقد ان الشاعر أحوج الى النثر من غيره، لأنه قبل ذلك أحوج الى تعدد مصادر المعرفة في الفكر والفن على السواء، ان سعة المعرفة والأفق يمنح حساسية الشاعر وبصيرته قدرة على التقاط وتأمل وكشف حقائق كثيرة ومثيرة، وهو يحتاج النثر للتعبير عن هذا الإلتقاط والتأمل والكشف، وبصورة دائمة، حتى اذا بدأنا من مهمة قراءة الشعر وفهمه وتذوقه، فالشاعر واسع المعرفة أقدر من أي ناقد على القيام بهذه المهمة، انه لا يحتاج الى اللعب بالألفاظ والأفكار والمفاهيم الذهنية، بل يذهب الى حاجة القاريء مباشرة والى عطايا الشاعر الخبيئة مباشرة، ومعرفته الواسعة وبصيرته وخبرته الشعرية هي الوسيط.
أنا لا أتحدث عن ضرورة تعدد المواهب المبدعة لدى الشاعر، فهذه هبات من الطبيعة، انني لا أتحدث عن ضرورة ان يكون الشاعر رسّاماً، بل ضرورة ان يكون معنياً بالرسم وبصورة إستثنائية، وأن لا يكون موسيقياً، بل ضرورة ان يكون معنياً بالموسيقى بصورة إستثنائية وهذا الأمر يمتد الى مصادر المعرفة الأخرى، بذلك سترى الشاعر (تماماً كما نرى أي شاعر غربي كبير) يحيط كتاب أعماله الشعرية بعشرات من كتب النثر، وهي جميعاً لا تقل أهمية عن نشاطه الشعري، وهذه الضرورة هي واحدة من أخطر خصائص الحداثة والشاعر الحديث، تأمل “اليوت” “ادون” “كريفر” “تيدهيوز” و “شيمون هيني” على سبيل المثال.
أنا شخصياً أميل الى قراءة النثر اكثر من الشعر، أسمع الموسيقى واقرأ عنها اكثر من أي حقل آخر، تحليل لوحة تشكيلية يعلمني الكثير، بشأن تحليل قصيدة، تأمل بُنية عمل موسيقي يلهمني في تأمل بناء قصيدة او بناء زقاق في دمشق القديمة.
*في نثر فوزي كريم، هناك القراءة النقدية للشعر ولعموم النتاج الثقافي عراقياً وعربياً، الى أي مدى ترى في نتاجك النقدي اقتراباً من منهج خاص؟
منذ أواسط الستينيات، في المرحلة المبكرة من نشاطي الأدبي كنت اعتدت متابعة كل النصوص الإبداعية التي كانت تكتب من قبل أصدقاء مقربين لي، أقرأها قبل النشر بشيء كثير من الأناة، ثم انفرد بكاتبها أحاوره بشيء كثير من التفصيل، وكان هذا مصدر متعة لكلينا اكثر هؤلاء كان من كتّاب القصة، كتّاب النثر، واعتقد ان تلك السنوات المبكرة كانت القاعدة الاسمنتية لنشاطي النقدي بشأن النص الإبداعي، وانا مدين لكل هؤلاء ففي أعينهم – لحظة الحوار – كانت تلتمع إضاءات ثقة مغذية، أذكر منهم: أحمد خلف، محمود جنداري، عالية ممدوح، عبد الستار ناصر، سعيد فرحان، خزعل الماجدي وآخرين.
إن إشارتي الى “نشاط نقدي” لا يعني إنني ناقد، فأنا شاعر أتمتع بدور الوسيط بين النص والقاريء، لديّ أفكار تتولد بفعل الخبرة الداخلية، خبرة الحياة وخبرة المعرفة، فأجد ضرورة لإذاعتها على الناس، وأنا أرى ان كتابي “ثياب الإمبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة” هو أنضج محاولاتي هذه، لأنه، كما اعتقد، كتاب نافع، والكتاب النافع هو الذي يخرج منه القاريء برؤية جديدة أو إضافية للمادة المدروسة.
من النادر ان يتصل المثقف العراقي وحتى العربي كما إتصلت بالموسيقى بوصفها أحد مصادر ثقافته؟
الذي جعل الموسيقى أهم مصدر من مصادر ثقافتي ووعيي هو كوني شاعراً وهذا الأمر لا يشكل لدي ظاهرة استثنائية مطلقاً، حتى لو كنت الوحيد بين الشعراء، الذي يسمع الموسيقى ويقرأ عن الموسيقى، لأنني أعتقد ان الظاهرة السائدة في إغفال شأن الموسيقى هي الإستثناء، لقد وُلد الشعر والموسيقى داخل الكائن الإنساني فناً موحداً، ثم إنفصل أحدهما عن الآخر في مرحلة ما زالت لدى مؤرخ الفن غائمة، كانا معاً لحظة كان تبادل الحوار بين الأم الأولى والطفل الأول ذا إيقاع ونغم ثم أصبح هذا شكل التواصل بين الكائنات الإنسانية، والدارس يقترح ان الموسيقى ربما أصبحت أقل أهمية داخل دم الكلمات حين ازدادت قدرات الإنسان على الكلام وعلى التفكير المفاهيمي، على ان هذا الإنسان احتفظ، من أجل التحاور العاطفي وتبادل المشاعر بين الأفراد والجماعات، بالموسيقى لا لإيصال المعلومة، التي خص بها الكلام الذهني، بل لإيصال الغامض الملتبس في المشاعر، ولذلك اعتقد ان الشاعر كان وما زال وسيظل كاهن هذا المحراب الموسيقي، وهو وحده الذي ينعم بمعرفة السر: من أين تنشأ اللحظة الشعرية، تلك التي تحرف اللغة من مهمة نقل المعلومة الى مهمة تتحول فيها، هي ذاتها، الى مشاعر غامضة ومعقدة، الفاجعة ان النسبة الكبرى من الشعراء العرب يهجسون هذه الحقيقة، التي تبدو أشبه ببديهية، ولكنهم يطوونها بمكر النسيان ويحترسون من التحديق فيها ومراجعة النفس بشأنها، وكأنها مصدر للمعرفة يشبه المصادر الإبداعية الأخرى مثل المسرح والرواية والسينما، على أنها ليست كذلك، ولقد انتبهت الفلسفة لذلك منذ “فيثاغورس” مروراً بالفلاسفة العرب والغربيين وعلى رأسهم “شوبنهاور” و “نيتشه” حتى اليوم تماماً وبذات الإنتباهة التي عرفها الشعر، ان كونها مصدراً للمعرفة شأن المصادر الأخرى يسهل على الشاعر الكسول محاولة إغفالها، وهناك من يحاول اعتبارها مادة طربية لا شأن لها بالمعرفة، وهذا النمط لا شأن لحديثي به، لأننا نختلف بشأن معنى “المعرفة” أصلاً.
انني لا أحب الموسيقى كما أحب قراءة الرواية أو رؤية المسرح أو تأمل اللوحة، بل أشعر انني كشاعر انما أرعى مُبدعاً موسيقياً صغيراً في داخلي، ولو نما ونضج وكبر هذا المبدع الموسيقي وأخذ حجم الإنسان الذي أنا عليه لرعى بدوره شاعراً صغيراً في داخله، هذا هو نموذج الشاعر الطبيعي الذي تفتقده ثقافتنا العربية، انني لا أباهي بنفسي هنا، فأرجو المعذرة اذا ما بدا حديثي مباهاة لا أقصدها بالنفس، بل أشعر بالفقدان وأمني النفسي بالبديهة وبشيوع ما هو طبيعي، تماماً كما أعرف عن الشاعر خارج لغتنا قديماً وحديثاً.
*ما الذي منحتك إياه الموسيقى من احساس بالسلام مع النفس وما الذي خرجت به من قراءات لأعمال هي عيون النتاج الموسيقي العالمي؟
الموسيقى لا تمنح سلاماً مع النفس فالشعر هو وليد الصراع مع النفس، الصراع مع الآخر يولد البيانات ومحاججة المهرجانات، على حد تعبير الشاعر “ييتس” والموسيقى تذهب أبعد من الشعر في ذلك، ان رباعيات “بيتهوفن” الأخيرة تعيدني من أسر الحياة اليومية المبتذلة الى حرية الصراع في داخلي، الى هجرة التساؤلات التي تتطاحن دون يقين، ولكن في هذا الهجير تطهيراً، ونزوعاً بما هو أرضي الى ما هو سماوي في موسيقى “موتسارت” الآلاتية نحس ان دموعاً تفيض من كل الحركات البطيئة، ولكن هذه الدموع ليست الدموع التي نألفها في العيون الباكية، وهي ليست دموع أسى وحزن أيضاً، بل هي دموع تنفرد بأنها دموع موسيقية لا تخص مشاعر إنسانية مباشرة ومحددة، انها دموع تفيض فعل غزارة الوجود والإحتضان القلبي لكل شيء حي، ومقاربة ليفي شتراوس بين المبدعين الموسيقيين وبين الآلهة تبدو مقاربة مفهومة اذا ما وافقناه على أن الموسيقى هي اللغة الوحيدة التي تنطوي على تناقض في كونها قابلة للإدراك وعصية على الترجمة في آن، وهذه خصيصة تتجاوز قدرات الإنسان، التي تعتمد وسائط قابلة للإدراك والترجمة والتمثيل والتفسير معاً، من هذا الركن المضيء يحاول الشعر ان ينتفع من صنوه، ان الحذر من الصراع الخارجي مع الآخر علمني كيف انصرف كلياً الى الصراع مع النفس، وما من فن كالموسيقى يقدر ان يعكس كالمرآة تلك الشبكة المعقدة المحتدمة داخل الشاعر (أي شاعر، وكل شاعر على حدة) وداخل محب الموسيقى (أي محب)، ما دام ذلك الشاعر والمحب يملك كل وعي الجوال المشرد الباحث بغير هدى عن الإستحالة، لقد منحتني الموسيقى كإنسان وكشاعر ثمرة ذلك التناقض الذي أشر اليه “ليفي شتراوس”: المدرك والعصي على الترجمة والإحتفاء بالتعارضات رحابة الأفق والغفران الإطلالة المشفقة على إحتدام العقائد غلبة كرامة الإنسان على كرامة الفكر.
*ما علاقة الشعر بالموسيقى خارج الإيقاع؟
علاقة الشعر بالموسيقى خارج فكرة الإيقاع أمر يخص التقنية، وهو جانب لا يقل أهمية عن الأول، الأعمال الموسيقية في جملتها تعتمد، من حيث بُنيتها، على جملة موسيقية أو جمل تتعارض أو تتداخل او تتنوع لتشكل مساراً نامياً أو متواصلاً، دون نمو، وهذه الفاعلية تشكل بُنية اللحن الأفقية، في حين تنشغل البُنى اللحنية، وهي تتداخل ببعضها، بتشكيل بُنية الهارموني العمودية، البُنيتان (اللحن والهارموني) لهما زمن معياره الإيقاع، وهو ضرورة خارجية، له طواعية في يد الصانع الماهر، وإلغاؤه مستحيل، واذا ما تم فبفعل عجز أو انعدام دربة الأذن، هذا الأمر يتم بصورة مقاربة في الشعر، بُنيتا اللحن والهارموني تشكلان الموسيقى الداخلية، والإيقاع الخارجي ضابط زمني، إن اللحن والهارموني هو الكون السري لموسيقى الشعر، عناصرهما الجملة الشعرية (أو حتى الكلمة) حين تتعارض وتتداخل وتتنوع لتشكل مساراً فيه نمو او ترسل، وهذه الجملة الشعرية ليست صورة فنية بالضرورة فقد تكون “فكرية” او “صوتية” في تجريدها، وقد تكون اكثر غموضاً من أن يدركها الشاعر نفسه، ومصداقية هذا الغموض انه ملهم يمليه الإيقاع على الكائن البدائي الرابض في أعماقنا، إن أكثر اولئك الذين يشطبون على الإيقاع والوزن والموسيقى، الخ وينظرون لهذا الشطب انما يعبثون بجوهر يجهلون أسراره، ولذلك تراهم يلجأون الى الإيهامات الشكلية ظانين ان الموسيقى الشعرية شكل خارجي مرتبط بصوت التفعيلة المجرد، مع ان هذه الموسيقى الشعرية لم تكن كذلك حتى في القصيدة العربية القديمة.
عازف الطبلة في الموسيقى العربية هو ضابط ايقاع، وهذه السطحية هي إحدى مصادر الإيهام، في حين لم تكن آلة الطبلة في الموسيقى الهندية الكلاسيكية، إلا آلة موسيقية تسهم في بناء اللحن وليست ضابطة ايقاع فقط.
*كنت قبل أيام في كردستان مشاركاً في مهرجان الجواهري، ها أنت تعود الى بقعة من الوطن عبر حدث عراقي صرف يتمثل بإستعادة ذكرى صاحب “يا دجلة الخير”، كيف لك أن تقرأ التجربة بأبعادها ثقافياً وروحياً؟
بعد يومين من عبور دجلة والإستقرار في دهوك بدأت أشعر أنني عائد، ان مشاعر العودة الى وطني ترددت أصدءاً في داخلي، ان الحلم الرمادي أخذ خضرة الجبال وشذرية المياه، طبعاً كنت أحتاج الى مزيد من الحجج لأقنع روحي المتشككة المرتابة بأن الساعات الطويلة التي قطعتها بالسيارة من دمشق الى “فيش خابور” هي ساعات عودة حقيقية، في “أربيل” التقيت شباناً أكراداً عظيمي الولع بالجواهري، عيونهم ترق بالدمع بفعل الحماس، يحتفظ أحدهم بكتابي “من الغربة حتى وعي الغربة” تحدثت إليهم كثيراً وهم يصغون، إصغاؤهم عمّق لدي مشاعر العودة، كنت نسيت، أو كدت، الشعر الذي ألّفته في بغداد، جمهور الشاعر في المنفى هم الشعراء والكتّاب، جمهور الشاعر في وطنه هم القراء، قراؤه.
احتضان مئوية الجواهري كانت ذات غِنى رمزي، لقد أحبهم بالذي يستحقون وأحبوه بما يستحق، وهم أحوج ما يكونون الى الحوار، الى إنفتاح العالم العربي عليهم، ولقد كانت ذكرى الجواهري خير وسيط.
ان طبيعة الجبلي فيهم مذهلة، وعراقيتهم واسعة الأفق كعراقيتي، قلب خبُر المخاوف والإرتياب بفعل التنكيل والإنكار، ولكنه لا يطمئن للكراهية والحقد، قلب يحب الغناء والرقص، والشعر الإنساني فيه فطرة، ان جمال الكردي ليرتفع سامياً، تماماً بمستوى سمو حزنه والأذى الذي احتمله، بمستوى شاهدة القتلى الذين لا يُحصون، طوال الأيام العشرة التي كنت فيها بينهم لم أشعر ان قامة الشاعر في داخلي استقامت لحظة، كانت منحنية دائماً إكباراً وإجلالاً لكل عذابات هذا الشعب الذي انتمي اليه.
شعرياً، لا أعتقد ان هذه العودة التي تشبه عودة خيالية سوف تؤثر في تجربتي كشاعر، لدي كتاب بإسم “أغنية التم” منشغل بكتابته هذه الأيام، هو استعادة غنائية لما مضى، وجدت ان استعادة تفاصيل هذه العودة الى شمال العراق خير خاتمة لهذا الكتاب.
*أبرزت في كتابك “ثياب الإمبراطور” موقفاً من إعلانات الحداثة وفي الشعر بخاصة، كان بالأصل موقفاً برز في مجلتك “اللحظة الشعرية”، هل ما زلت ترى في الحداثة الشعرية العربية تهويمات وأن لا طائل من قصيدة النثر؟
لم يتغير شيء في الثقافة العربية ولا في الشعر العربي، موقفي في مجلة “اللحظة الشعرية” وفي كتاب “ثياب الإمبراطور” ينضج ويتسع أكثر إلحاحاً مع الأيام، إن مفهوم “الحداثة” ينطوي على كثير من الإلتباس، وإساءة فهمه محاولة مقصودة من قبل كثيرين لكي يمرروا عبرها كل ما ينفع من حصاد الكسل الشرقي الذي فيهم، ان كل الذين خرجوا في صحافة ومؤسسات “ثقافة الإعلام” أرادوا للحداثة ان تكون قناعاً مصوتاً ضاجاً صاخباً لحقائق الواقع الثقافي الخرساء التي وراءه.
مثقفو الحداثة لدينا لا يحاورون انفسهم بالدرجة الأولى، لا يحاورون قراءهم لا يحاورون واقع انفسهم وواقع قراءهم، بل هم مأخوذون بمحاورة حداثة الكاتب الغربي والقاريء الغربي عبر الكتاب المترجم طبعاً، وهذا الإيهام للنفس وللآخر يُيَسر عليهم عبور أخطر الأسئلة بسلام: لِمَ المعرفة؟ لِمَ القراءة؟ لِمَ الكتابة؟ ولِمَ كل هذا السعي إذا لم يكن للحقيقة؟ وكيف أسلِّم بحداثتي إذا كنت أعرف يقيناً ان الحداثة هي وليدة أربعة قرون عاشها الإنسان الاوربي والغربي عامة بكل دمه ووجدانه وعقله؟.
إن أسئلة جذرية كهذه وحدها كفيلة بإنتاج مثقف عربي حديث، أو قصيدة حديثة، لا اللعب المضحك وراء الكلمات والصيَغ والأوزان والأشكال، إن قصيدة النثر وقصيدة الوزن ضحك على الذقون، إنها وليدة هجينة لفراغ روحي وفكري مريع، وليدة صحافة “ثقافة الإعلام” التي تجثم على الأفق العربي كله.
هناك شاعر قصيدة نثر، كما ان هناك شاعر قصيدة وزن، وهناك شاعر، الأوّلان إبنان وفيان لـ “ثقافة الإعلام” الأخير هو الذي يطل مشفقاً على الكارثة.
لدى زيارتي الأخيرة لكردستان ودمشق وعمّان، نضجت لدي فكرة إعادة إصدار مجلة “اللحظة الشعرية” ولكن هذا الإصدار لن يخلو من غرابة واستثنائية، مجلة المدى عرضت ان تستضيف المجلة بين صفحاتها الكبيرة، على أن لا يؤثر هذا على استقلالها ومنحاها الإرتيابي المتسائل، لقد تحملت عني مشقات الطباعة والتوزيع وتكاليفهما.
المجلة ستواصل اختبارها لمصداقية أبرز خصائص وفاعليات ووجوه ما يسمى بحداثة وما بعد حداثة شعرنا ونقدنا العربيين.
إزاء نفي يكاد يصبح خيار الجمع الأكبر من المثقفين العراقيين وضنك ومطحنة ألم للمثقفين داخل الوطن وبالذات من كان خارج إطار المؤسسة الثقافية الرسمية، كيف ترى المشهد وهل استطاع المثقف العراقي تكثيف لحظة موحشة يعيشها الوطن وشعبه؟
اُلغيت مؤسسة الدولة منذ عام 1958، المثقف أسهم وعلى لسان الأحزاب العقائدية، في رفع شعارات خطيرة في شوارع وأفق الحياة العراقية، وصدام حسين الثمرة الناضجة لهذه الشعارات، المثقفون أصابهم الخرس حين رأوا هذه الثمرة تطلع من الشجرة التي أنبتوها بعرقهم، ما كان أحد منهم يتوقع أن يولِّد اللعب العابث بالكلمات هذه الآفة السوداء، اللعب العابث اللامسؤول بالكلمات والأفكار والنظريات العضلية ما زالت تنبت أشجاراً شريرة رأينا شيئاً من ثمارها وسنرى المزيد، المثقف الذي خرج مثلي هارباً لا يحب ان يلتفت الى الوراء، انه يستعيد الماضي عبر مصفاة المثقف الذي لم يعتد مراجعة النفس، وكأنه لم يهلل لإستقبال “أفكار”: الثورة والحرية من أسر المؤسسة والقانون، والتمرد على العُرف والقيم في مجتمع شبه بدائي، والتجاوز لماضي او حاضر لا مستقبل وراءه، ومعانقة المستقبل – صنو الفراغ، وابتكار الجديد حيث لا حياة جديدة، والإستغراب في المدهش الذهني على حساب المدهش الواقعي، الخ كأنه لم يرث ولم يورث كل جذور الآفة المقبلة التي تمثلت بصدام حسين…
انني لا أحب ان أتحدث عن آلام المثقفين، لقد انتفعنا جميعاً وبصورة إنسانية من منافينا، كل واحد منا قادر ان يعدد بيسر الإمتيازات التي حصل عليها، ولعل أولى هذه الإمتيازات هو الخلاص من قبضة الجلاد، تحدّث عن مئات الآلاف من العوائل العراقية المهجرة عنوة، عن الملايين الذين يعيشون على الأرض الغريبة وهم يتأملون احتراق جذورهم عاجزين، تحدّث عن الملايين الذين يحسبون للثواني حساباً داخل العراق، يحسبون لطرقة الباب ألف حساب، يرون الموت أبيض كسماء الصيف.
المثقف العراقي لم يحدق في المأساة كفاية، ما زال مهووساً بالأفكار التي تتناسل في الألفاظ، ما زال مأخوذاً بسحر العقائد التي لا تعصر، لأنها ليست ابنة الحياة، طبعاً، التجربة العراقية اكبر فاعلية من الألفاظ وبوادر الإنتباهة على مشاغل النفس الحقيقية بدأت خيبة منذ سنوات، وستظل مراحل نضجها قريباً، إن عشرات الكتّاب يتحدثون اليوم بلغة لصيقة بدلالتها وتختلف عن لغة السنوات السابقة.
* الحوار نشر في العام 2001 ضمن ملف خاص بمجلة “المسلة” احتفاء بالشاعر واثره الفكري.
حياته
• مواليد بغداد 1945
• تخرج من كلية الآداب جامعة بغداد 1968
• عاش في بيروت بين 1969-1972
• متفرغ للعمل الكتابي الحر منذ تخرجه حتى اليوم
• يقيم في لندن منذ 1978
اعماله الشعرية
• حيث تبدأ الأشياء 1968
• أرفع يدي احتجاجاً 1973
• جنون من حجر 1977
• عثرات الطائر 1983
• مكائد آدم 1991
• لا نرث الأرض 1988
• قارات الأوبئة 1995
• قصائد مختارة 1995
• قصائد من جزيرة مجهولة 2000
اعماله النثرية
• من الغربة حتى وعي الغربة 1972
• أدمون صبري، دراسة ومختارات 1975
• مدينة النحاس 1995
• ثياب الإمبراطور 2000
• كوازيمودو – قصائد مختارة 2000
• الفضائل الموسيقية (قيد الإعداد)
• أغنية التم (قيد الإعداد)