اسم الكاتب : ثامر عباس
لا يخفى أن غالبية المدن التاريخية ذات الباع الحضاري الطويل كانت قد أقيمت عند سواحل البحار أو على مجاري الأنهار ، وهو الأمر الذي جعل مصيرها التاريخي والحضاري مرتبطا”ومقترنا”بمصير تلك البحار والأنهار ، سواء فيما يتعلق بضمان أمنها الإقليمي والسكاني ، أو فيما يتصل بتأمين مصادر احتياجها الاقتصادي والتجاري . ولعل مدن العراق منذ عصور ما قبل التاريخ ولحد الآن تعد شاهدا”على مصداقية هذا الاستنتاج الانثروبو- ايكولوجي ، حيث تغيرت في العديد من الحالات مصائر الكثير من المدن التي شيدها الإنسان العراقي القديم على ضفاف نهري دجلة والفرات ، اثر التحولات الطوبوغرافية التي تعرضت لها مجاري النهرين على مدى مئات وآلاف السنين ، ناهيك عن تواتر ظاهرة الفيضانات الموسمية التي كانت من جملة عوامل اندراس تلك المدن واندثار حضاراتها .
وعلى الرغم من فداحة الأضرار التي ألحقها كل من النهرين المذكورين (دجلة والفرات) بمدن العراق وسكانها ، سواء في حالة تحول مجراهما وتغير مسارهما ، أو في حالة ارتفاع مناسيب مياههما والتسبب بحصول فيضاناتهما المدمرة ، على مدى قرون ، للحدّ الذي ان آثار ذلك النفسية والسلوكية والفنية تغلغت عميقا”بين طيات الذاكرة التاريخية وضمن مخزون المتخيل الجمعي العراقي . بيد أن حرارة عشق العراقيين لهذين النهرين لم تفتر رغم تعاقب الحقب وتناوب الأجيال ، لا بل ان تغني الشعراء والأدباء بهما وتقريظ الجغرافيين والمؤرخين والآثاريين لهما – لاسيما حيال أهمية دوريهما في صيرورة الحضارة العراقية المؤمثلة ، وسيرورة تاريخ جماعاتها ومكوناتها المطلسمة – قد تضاعف وتعاظم مع مرّ الأيام وتوالي السنين . للحدّ الذي يبدو أن أي دراسة تتناول قضايا المجتمع العراقي – ماضيا”وحاضرا”- لا تضع باعتبارها تلك العلاقة العضوية والرابطة الجدلية بين ثالوث (الجغرافيا – الايكولوجيا – الانثروبولوجيا) ، سيكون مصيرها الفشل .
ولعل هذا التمجيد والتخليد المفرط لهذين النهرين متأت من واقعة استبطان الوعي الجمعي العراقي لحقيقة قد تبدو غير مدركة من قبل البعض مفادها ؛ ان مصير الكيان العراقي (أرضا”وشعبا”وحضارة) مرتهن ليس فقط بوجود النهرين جغرافيا”وطوبوغرافيا”فحسب ، وإنما مرتبط بضرورة تعافيهما الايكولوجي وغنائهما الإحيائي أيضا”. ولكن ، وبالرغم من كل هذا الاحتفاء التقريظي الذي يبديه العراقيين حيال ما يزعمون من أهمية لدور النهرين المذكورين ، فان الأمر لا يخلو من المفارقات والتناقضات التي بات المجتمع العراقي (خبير) بإنتاجها وترويجها على نحو لا يحسد عليه .
إذ بقدر ما يبدو ان العراقيين حريصين على سلامة شرياني بلاد الرافدين وضمان تدفق نسغ الحياة فيهما (الماء) ، بقدر ما يبرهنون عمليا”وفعليا”على زهدهم بأهميتهما وتبخيسهم لقيمتهما ، عبر الكثير من الممارسات الضارة والفعاليات المدمرة التي لا تقتصر فقط على (الهدر) الاعتباطي لمياههما الشحيحة أصلا”فحسب . بل وكذلك تعمد الإساءات اليومية لحوضهما عبر تحويلهما الى مكب عام للنفايات ؛ سواء برمي الأنقاض والأوساخ فيهما ، أو بإقامة المشاريع السكنية والترفيهية العشوائية على دفتيهما ، دون تخطيط مديني مدروس أو اعتماد ضوابط حضرية ملزمة ، بحيث باتا يعانيان الاختناق في المسار الجغرافي والضيق في المجال الطوبوغرافي ، فضلا”عن استشراء مظاهر التلوث في صلاحية ماء النهرين للاستهلاك البشري مع القضاء على تنوعهما الإحيائي والايكولوجي .
وبدلا”من أن تهتم الحكومات (الوطنية) المتعاقبة بإنشاء السدود على مجاري تينك النهرين العظيمين وتحسين شبكات الري ، تحسبا”للظروف الطارئة والأوضاع الاستثنائية – كما هي الحال في الآونة الأخيرة – من جهة ، ولضمان نجاح الخطط والمشاريع التنموية في المجالات الصناعية والزراعية ، ومن ثم تحقيق الاكتفاء الذاتي في مضامير الأمن المائي والغذائي للعراق من جهة أخرى . فقد تماثلت مواقف تلك الحكومات (اللاوطنية) وتشابهت إجراءاتها فيما يتعلق بإهدار تلك الثروة والتفريط بقيمتها الحيوية ، على النحو الذي سمح لدول الجوار الجغرافي (تركيا وإيران) بممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية عبر سياسات (التعطيش) المتعمدة ، كلما دعت الحاجة لإجبار العراق على الرضوخ لاملاءات هذا الطرف والاستجابة لشروط ذاك ، للحدّ الذي بات معه مستقبل بلاد الرافدين رهينة للمصالح الإقليمية والدولية التي لن يهمها ما سوف يحيق بمصير العراق من خراب حضاري ويباب إنساني ، لاسيما وأن مخاطر جفاف الأنهار ، ومظاهر التصحر ، والاحتباس الحراري ، والتغييرات المناخية ، باتت واقعا”قائما”لا تفتأ تهدد وجودنا بأية لحظة ! .