نوفمبر 21, 2024
345015321_917012932888378_5263142934802611669_n

اسم الكاتب : ثامر عباس


لطالما ظلت الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية في الجامعات العراقية – رغم تنوع مواضيعها وتكاثر مصادرها – تتهيب الخوض في غمار بحث وتحليل الطبيعة الفسيفسائية للجماعات والمكونات العراقية المتشظية والمتصارعة ؛ من حيث خصائص البنى التكوينية ، وأنماط الثقافات الفرعية ، ومضامين السرديات التاريخية ، و محتوى التمثلات المخيالية . ومن ثم الكشف عن أدوار تلك البنى والأنساق والأنماط التي كانت – ولا تزال – من أبرز الأسباب المعيقة للسيرورات والديناميات من جهة ، وإماطة اللثام عن التأثيرات والتداعيات والتبعات المحفزة لعوامل التخلف الاجتماعي – الاقتصادي ، والتطرف الديني – المذهبي ، والتعصب القومي – الاثني ، والتخندق الثقافي – اللغوي ، والتمترس الإيديولوجي – الحزبي من جهة أخرى . لا بل ان هناك من الباحثين والمؤرخين من يستهجن استخدام عبارة (الفسيفساء) لتوصيف طبيعة المجتمع العراقي ، من منطلق حرصه (العاطفي) على استبعاد كل ما يوحي ب (تعدد) الجماعات و(تنوع) المكونات التي يتشكل منها النسيج الاجتماعي العراقي (الموحد) ! .
وإذا كانت الممنوعات السياسية والمحرمات الإيديولوجية في السابق قد حالت دون ظهور وتطور مثل هذه الدراسة ، بدعاوى الحفاظ على وحدة النسيج الاجتماعي والحيلولة دون تفكك روابطه وتشظي أواصره ، ومن ثم الزعم بأن مكونات المجتمع العراقي تعيش في أفضل حالات التجانس الثقافي والتناغم الوطني . فان تغير الظروف السياسية وتبدل الأوضاع الاجتماعية وتحول الأنساق الثقافية وانزياح السياقات التاريخية في الوقت الحاضر ، لم تعد تبيح أو تسمح للمتخصصين (باحثين وأكاديميين) بالتعكز على مبررات ومسوغات باطلة لم يعد لها وجود ، بقدر ما تحفّز المعنيين والمهتمين للخوض في غمار تلك المواضيع ذات الطبيعة (الحساسة) المؤمثلة في المخيال . بحيث يكون بمقدور كل من أتيح له امتلاك العدة المعرفية والمنهجية الغوص في أعماق تلك الممانعات الشخصية والممنوعات الاجتماعية ، ليس فقط لكسر حواجز الخوف وتحطيم قيود الردع التي طالما كبلت العقل وغلت الإرادة فحسب ، وإنما لامتلاك القدرة على التحرر من كوابيسها النفسية والتخلص من عواقبها السلوكية ، وبالتالي الخروج بدراسات وتوصيات ذات جدوى على مختلف الصعد الإنسانية .
ولعل سؤال يطرح نفسه ؛ ما الذي يجعل علم الانثروبولوجيا ضروري الى هذا الحدّ بالنسبة للمجتمعات التي لا تزال تعاني عواقب ماضيها السياسي والاجتماعي والثقافي الشائك والملتبس ، لاسيما وان هناك علوم اجتماعية وإنسانية أخرى تشاطر هذا العلم اهتماماته وانشغالاته كعلوم (علم الاجتماع والتاريخ والحضارة والدين والاقتصاد) على سبيل المثال لا الحصر ؟! . وللإجابة على ذلك نقول ؛ ان الانثروبولوجيا هي العلم الذي يسعى للنبش في السيرورات التقليدية والتواضعات الاستاتيكية التي طالما شكلت سمة بارزة من سمات تلك المجتمعات . أي بمعنى أنه (الانثروبولوجيا) يسعى الى تفكيك البنى العميقة لتلك المجتمعات ، والحفر عميقا”في طبقات وعيها الباطن ، والتنقيب في طمى سيكولوجيتها المضمرة ، وهو الأمر الذي دفع بالفيلسوف الفرنسي (ميشيل فوكو) – ضمن بحثه عن (اركيولوجيا العلوم الإنسانية) – الى وصف الانثروبولوجيا بأنها (علم مضاد) للمألوف والمعيش ، من منطلق كونها (ليست أقل عقلانية ، بل لأنها تسير في الاتجاه المعاكس ، وتحاول دائما”(تفكيك) طبقات الإنسان التي تصر العلوم الإنسانية ، كالاقتصاد ، على صنعها) .
وعلى هذا الأساس تتكشف أمامنا ليس فقط أهمية هذا العلم وضرورته بالنسبة لهذا النمط من المجتمعات الإنسانية المتصدعة والمتشظية (الفسيفسائية) على صعيد نتائج التحليل والتأويل التي يقدمها للباحث فحسب ، وإنما تتوضح لنا خطورته على صعيد المقاربات المعرفية والمداخل المنهجية التي يستلزمها لسبر أغوار المسكوت عنه في ميادين التاريخ المؤمثلة ، والمحذور الاقتراب منه في مجالات الدين المؤسطرة ، والممنوع القول فيه في مضامير السياسة المؤدلجة . بحيث ان التقليل من شأن هذا العلم والحيلولة دون تطوير مجالاته وتفعيل ميادينه – تحت شتى المزاعم السياسية والإيديولوجية – أفضيا الى أعاقة العديد من الحقول المعرفية لجهة اجتراح التنظيرات النقدية واقتراح المنهجيات التفكيكية ، التي من شأنها إيجاد الحلول واستنباط المعالجات لأغلب مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والثقافية والتاريخية والدينية ، التي لم تبرح ضغوط تراكماتها وتفاقم تداعاتها تضاعف من عوامل تهديد كيان دولتنا المتخلع وأمن مجتمعنا المتضعضع .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *