نوفمبر 24, 2024
صقغ

اسم الكاتب : ثامر عباس

ان المسار الفاصل بين مفهومي (الكنية) و(الكينونة) مسار طويل وشاق ومتعرج ، لن يتأتى لأي شخص تحمل صعابه وتجشم عنائه إلاّ لذوي الإرادات الحرة والعقول المفتحة والبصيرة النافذة ، لاسيما وانه يتطلب الكثير من التضحيات الذاتية بقدر ما يواجه العديد من التحديات الموضوعية التي غالبا”ما تكون باهضة ومكلفة . أي بمعنى أن استحالة الفاعل الاجتماعي من طور (التوحش) و(التبربر) الى طور (التأنسن) و(التحضر) ، يحتاج الى قدر كبير من المجالدات العقلية والمكابدات النفسية على نحو دائم ومستمر ، وهو ما يجعل عدد الذين يغامرون باختيار هذا المسار الشائك ، فضلا”عن قبولهم تبعات التحدي لقيمه الطهرية وأخلاقياته الصارمة ضئيل ومحدود .

وللوقوف على مبلغ الصعاب وطبيعة التحديات المترتبة على خيار (الاستحالة الحضارية) للشخص الذي يبادر بدخول هذا المعترك الوجودي والاجتماعي والإنساني والأخلاقي ، يستلزم الأمر توضيح ما نعنيه بمفهوم (الكنية) ونظيره مفهوم (الكينونة) ، والإشارة من ثم الى الفرق النوعي الذي يفصل بينهما ويترتب عليهما ، وبالتالي يجعل عملية (الاستحالة) المقصودة ممكنة الحدوث . فالنسبة للمفهوم الأول (الكنية) فان المراد به هو أن تعيين (هوية) شخص ما والتعريف بماهيته لا يتأتى عبر الإحالة المباشرة إليه باعتبار كونه موجود بذاته ، مثلما لن يتحصل ذلك إلاّ بالاعتماد على مصدر خارجي مضاف يكون بمثابة الدال الى المدلول . أي بمعنى ان هذا الأخير لا ينتمي الى أصل العناصر المكونة للشخصية المعنية وليس له علاقة بخصائصها التكوينية ؛ كأن يكون المصدر (أسري / عائلي ، أو قبلي / عشائري ، أو مذهبي / طائفي ، أو جهوي / مناطقي ، أو قومي / اثني) . ولعل من نماذج هذه الحالة ما تواضعت عليه أعرافنا وتقاليدنا الاجتماعية حيال التعريف بشخص ما أو الإشارة إليه عبر نعته بعبارة (أبو فلان) أو (فلان االفلاني) ، بحيث ان هذه الإضافة التعريفية هي التي تعين طبيعة الفرد المستهدف وتدلل على هويته ، وليس تلك المقومات البنيوية التي تتكون منها شخصيته وتتشكل عليها سيكولوجيته وتتمظهر فيها مواهبه .

أما بالنسبة للمفهوم الثاني (الكينونة) فهو ما يشتق من كيان الشخصية ذاتها دون الحاجة الى إسناد خارجي مضاف ، أي انه يشير الى أن ما يعيّن (هوية) الشخص هو مصدر ذاتي – داخلي ، لا يشكل جزءا”من كيان تلك الشخصية الموصوفة فحسب ، وإنما يعد عنصرا”جوهريا”في عمليات تكوينها الوجودي وصيرورتها الحضارية كذلك . ولهذا فعندما يتخلى الشخص المعني عن (كنيته) المكتسبة اجتماعيا”وعرفيا”، في الحالة الأولى ، لن يكون لهذا الأمر – في الغالب – تأثيرا”على طبيعته ، مثلما لن يقلل من قيمته الاعتبارية أو يبخس من شأنه الإنساني . أما إذا حصل العكس ، في الحالة الثانية ، لسبب من الأسباب ، وشعر بانخلاع (كينونته) الذاتية وتفكك (كيانه) الشخصي ، فان الأمور ستأخذ منحا” خطيرا”قد لا تقف عند حدّ الإحساس بضياع الوجود الاجتماعي وفقدان القيمة الاعتبارية للأنا فحسب ، وإنما سيفضي كذلك الى انعدام المعنى من الحياة الاجتماعية وتلاشي المغزى من المشاعر الإنسانية .

وبضوء ما تقدم ، فان المجتمع الذي يقيّم أفراده ويفاضل جماعاته على أساس (كنيتهم) الرحمية / الأسرية أو العصبية / القبلية ، بدلا”من الاحتكام لمعيار (كينونتهم) الإنسانية والأخلاقية والعلمية ، سيبقى يرسف في أغلال (الهمجية) و(البربرية) مهما اتخذ من إجراءات وبذل من محاولات وسن من تشريعات ، وبالتالي فهو يدلل على كونه لا زال يعيش في أدنى مستويات التحضر وأحط مدارج التمدن ، رغم بهارج (الحداثة) وطلاء (المدنية) التي يحاول عبرها ومن خلالها إخفاء هشاشته البنيوية ورثاثته الحضارية . ولعل ما يؤكد هذه الحالة / الظاهرة مستوى التلازم والتخادم القائم ما بين مظاهر (التخلف) واستشرائها في المجتمع المعني من جهة ، وبين تكريس العلاقات القائمة على الروابط الرحمية والقرابية والقبلية والجهوية ، وترسيخ قيمها وتقاليدها وأعرافها وفقا”لديناميات المجايلة من جهة أخرى . أي بمعنى أنه كلما انخفضت مناسيب التقدم الفكري وتراجعت معدلات التطور الحضاري وتدهور الارتقاء العلمي على الصعيد الاجتماعي ، كلما ارتفعت مؤشرات النكوص في الوعي والارتداد في السلوك على الصعيد الفردي ، والعكس بالعكس .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *