اسم الكاتب : ايناس سعدي عبد الله
تمثلت المؤسسات التعليمية الشعبية بالكتاتيب والمدارس الدينية والتكايا، وقد قامت هذه المؤسسات بدور مهم في حياة المجتمع العراقي، وخاصة قبل نشوء المؤسسات التعليمية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، فأما الكتاتيب فقد كانت منتشرة في انحاء مختلفة من العراق انتشارا كبيرا، ومما ساعد على ذلك أن السلطات آنذاك لم تكن تعد الخدمات التعليمية من اختصاصاتها وانما من اختصاص الافراد والجماعات وكان التعليم في هذه المؤسسات مجانا، إلا أن الاباء عادة كانوا يسهمون في تقديم بعض الأموال إلى المعلمين (الملالي)، الذين يعلمون الاطفال القرآن الكريم والكتابة، والحساب. كان الكتاب يدار من قبل معلم (الملا) ولا يشترط في هذا المعلم سوى أن يكون من حفظة القرآن الكريم وما يتطلب ذلك من معرفة القراءة والكتابة، ويتم التدريس في حجرة صغيرة في مسجد أو في دار الملا أو في دكانه، حيث يجلس الاطفال على الحصر واضعين بين ايديهم القرآن الكريم أو احد اجزائه، ويحمل كل طفل معه إلى الكتاب ريشة أو قلما، وحبرا ولوحا يستعمله في كتابة الالف باء) أو العمليات الحسابية البسيطة، وكان هناك نوع من التعاون بين المعلم ووالد الطفل وكانت له صلاحية واسعة في تربية الولد، وقد يستعمل القسوة في معاملة الولد الذي يشذ في سلوكه أو يقصر في دراسته، والتعليم في هذه المؤسسة حر لا يخضع لنظم أو قوانين فالملا لا يلتزم بعدد سنوات في تربية الاولاد لانهم يومئذ يتقدمون حسب قابلياتهم فكانوا يختمون القرآن في فرص متفاوتة، كل حسب واجتهاده، وعملية التعليم تتم بتحفيظ الاطفال القرآن واصول الدين بتكرار مطرد وطريقة التعليم فردية إذ يعد كل طفل صفا قائما بنفسه. بالرغم من أن معظم المعلمين كانوا يعدون عملهم جزءا من واجباتهم الدينية إلا انهم كانوا يستلمون اجورهم من اولياء امور الاطفال وتسمى الاجور (الخميسية) لأنها تعطى كل يوم خميس. ولم تكن الاجور محددة بل يقدم ذوو التلميذ ما تجود به أنفسهم وقد يدفعون للمعلم اشياء عينية، ويمكث الطفل في الكتاب من مطلع الشمس حتى غروبها باستثناء فترة الغداء الذي كان يتناوله في بيته، وللملا مساعد (خلفه) واجبه الاشراف على الاطفال الجدد وحملهم على انجاز واجباتهم واخبار الملا بذلك ليعطيهم درسا جديدا، وهكذا يستوعب الطفل القسم المطلوب منه لينتقل إلى القسم الآخر. ذلك بالنسبة إلى البنين الذين ينصرفون بعد اكمالهم التعليم في الكتاب الى الحياة العملية لاكتساب حرفة من الحرف، وقد يتجه قليل منهم إلى المدارس الدينية ليكمل تعليمه، أما البنات فكن يرسلن إلى الملاية أو (الخوجة) وتعني المعلمة، تعلمهن القرآن الكريم وواجبات الدين الحنيف وقد يكون الكتاب الذي تديره المعلمة مختلطا. لم تقدم الحكومة اية مساعدات مالية إلى هذه الكتاتيب التي ظلت تعمل وفق اساليب تعليمية متخلفة، ولكن التجار وشكاوى الاهالي المتكررة ادت إلى لزوم مراقبتها بقانون صدر في السنوات المتأخرة من عهود الاحتلال العثماني. لا توجد احصائية دقيقة عن عدد الكتاتيب في العراق خلال تلك المرحلة من تاريخ العراق الحديث، إلا أن ثمة احصائية تخمينية تشير إلى انها كانت 1913-1914م لا تقل عن (400) الكتاب. كان للمسيحيين مؤسسات تعليمية دينية تشبه في الغرض الذي من اجله انشئت كتاتيب المسلمين ومدارسهم، وقد لعبت المدارس الدينية المنتشرة في الكنائس والأديرة دورا كبيرا في التعليم ومعظم معلمي هذه المدارس من القسس والرهبان الشمامسة. وقد يتلقى تلاميذ هذه المدارس دروسهم باللغة العربية أو السريانية، وستناول ذلك الموضع لاحقا بشيء من التفصيل. أما المدارس الدينية التي وجدت في العراق خلال هذه الفترة فلم تكن سوى امتداد للمدارس العربية في العصور الوسطى الاسلامية، وقد تنافس السلاطين والولاة وابناء الاسر الثرية في انشاء المدارس الدينية بدافع الاخلاص للدين، فكانوا يوقفون لها ما يلزم ويسهلون للناس تلقي العلوم النقلية منها وجعلوا في كل مدرسة خزانة كتب، كما كانوا يقدمون التسهيلات للطلاب. لقد كان المنهج التعليمي في المدارس الدينية ينظم على ثلاث مراحل وهي: السطوح، والفضلاء، والخارجية البحث الخارجي)، فالمرحلة الأولى تشمل دروس | العربية والبلاغة والمنطق. أما مساق الدروس في المرحلة الثانية: فيركز على درس المنهج والفقه وعلى الطالب أن يدرس مختلف المناهج التي توصل إلى معرفة الادلة والثبوت والاصول والشرائع والفروض، ثم ينتقل الطالب بعد انتهاء هاتين المرحلتين إلى المرحلة الثالثة: الخارجية وليس في هذه المرحلة كتب خاصة معتمدة، إنما يحضر الطلاب دروسا ومحاضرات عامة يلقيها علماء كبار لهم شهرة دينية وفكرية بعدها يمنح الطالب الاجازة العلمية التي تجيز له التدريس مستقبلا بما اجيز فيه. قامت المدارس الدينية وخاصة في بغداد والبصرة والنجف والموصل وسامراء بدور كبير في الحفاظ على اللغة العربية والتراث العربي الإسلامي، كما انها استطاعت أن تلبي احتياجات المجتمع العراقي حتى القرن التاسع عشر، حيث برز من خريجي هذه المدارس عدد من العراقيين الذين لعبوا دورا كبيرا في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية آنذاك. ومن مدارس بغداد في عهد الحكم العثماني مدرسة الامام الاعظم، والمدرسة المرادية، ومدرسة جامع الاحمدية، والمدرسة السليمانية ومدرسة جامع الخاتون، والمدرسة القادرية، أما أبرز المدارس الدينية في الموصل خلال هذه الفترة فهي المدرسة الاحمدية، ومدرسة يحيى باشا، والمدرسة اليونسية، ومدرسة الجامع النوري، والمدرسة الخزامية، والمدرسة الامينية، والمدرسة الجرجسية. ومن مدارس البصرة: المدرسة الحلية، والمدرسة، الرحمانية، والمدرسة السليمانية، وفي النجف استحدث مدرسة الملا عبد الله، والمدرسة الغروية، ومدرسة المعتمد ومدرسة القزويني، ومدرسة الشيخ مهدي ال كاشف الغطاء، كما انتشرت المدارس الدينية في السليمانية وكركوك واربيل والحلة وغيرها من المدن العراقية. لكن المؤسسات التعليمية الدينية فقدت اهميتها بعد تأسيس المدارس الرسمية الحديثة على النمط الأوربي، فقل اقبال الطلاب عليها، وصار عددها يتناقص وتأثيرها يضعف في المجتمع. ومع هذا فقد ظلت تعمل جنبا إلى جنب مع مؤسسات التعليم الرسمي، الحديثة، وتشير الاحصائيات الى إن عددها في العراق في اواخر العهد العثماني بلغ (49) مدرسة دينية. أما التكايا، فهي مؤسسات دينية وتعليمية، وقد حظيت بالاهتمام من لدن السلطات العثمانية والولاة، العثمانيين، لكونها تعد من المؤسسات الاجتماعية والخيرية التي كانت مأوى للفقراء والطلاب والدراويش، فقد كان يلجأ إليها عادة المتزهدون من الصوفية، وتحبس لها اوقاف عديدة من قبل مؤسسيها واصحابها، ومريديها، وتقوم في كثير من الاحيان بوظائف المسجد والمدرسة الدينية نفسها. كما قد تتخذ فندقا للمسافرين من الطلبة والمتزهدين حيث تقدم الطعام لهم في اوقاتها الخاصة، واصبحت في بعض الاحيان تؤوي الكسالى والعاطلين من الناس. وقد كثرت التكايا في هذه الفترة لانتشار روح التصوف والزهد بين الناس بسبب سوء الأوضاع العامة التي كانوا يعيشونها، ولعل من أبرز التكايا في العراق، رباط الشيخ محمد بن السكران (ت 667هـ/ 126م) ورباط الشيخ عبد القادر الكيلاني، ورباط العميد ورباط حسن باشا بالجانب الغربي من بغداد، ورباط مالك بن دينار، في البصرة، وتكية الحاج محمد الهندي، وتكية حسن الحبار، وتكية الشيخ عبد الواحد وغيرها في البصرة. وقد انتشرت التكايا بكثرة في العراق خلال العهد العثماني، منها، التكايا النقشبندية، والتكايا البكتاشية، والتكايا القادرية.