نوفمبر 22, 2024
1f46663eeecaeaf4acfc9b364d8368ff

اسم الكاتب : ايناس سعدي عبدالله

عانت المرأة العراقية كثيرا من ضروب الاضطهاد والاستغلال والاستعباد والتخلف الذي عانى منه شعبنا في الفترة التي خضع فيها للتسلط العثماني ما بين 1534 إلى 1914م. وعلى الرغم من ذلك، فقد استطاعت المرأة العراقية أن تسهم في بعض المجالات إلى جانب الرجل في ميدان العمل والبناء وان تتجاوز حالة التخلف والقيود المفروضة عليها. ظلت المرأة العراقية طوال العهد العثماني اسيرة العادات والتقاليد البالية التي لا تعطي للمرأة قيمة بشرية إذ ينظر إليها في مستوى اقل من مستوى الرجل، ويتوجب عليها أن تعيش داخل جدران بيتها واذا ما خرجت منه عليها أن تلبس الحجاب الذي ترى من خلفه العالم، وعلى الرجال أن يتجنبوا ذكرها في المجالس العامة، لان مجرد الحديث عن النساء يعد خروجا على الادب وولوجا في اسرار البيوت، ولهذا عوض بعض الشعراء والادباء هذا النقص باختراعهم شخصيات نسائية من بنات افكارهم ينسجون حولها القصص الادبية والاشعار استجابة منهم لضرورات عصرهم، أو الكتابة عن شهيرات النساء في التاريخ، دون التطرق إلى ذكر أي من نساء عصرهم. لم تكن عزلة المرأة مقتصرة على الحجاب فقط، بل انها تعيش في عزلة تامة عن الرجال، حتى داخل بيتها، إذ تقيم النساء في اماكن خاصة من البيت ولا يمكنها الالتقاء بالرجال، وفي هذه الاماكن لا يفتح أي منفذ مطل على الطريق، وتجاه ذلك لم يبق للمرأة من سبيل للترويح عن نفسها سوى الزيارات الجماعية التي تقام بصورة دورية وعندما يأذن الزوج بذلك فقط. وقد يخرجن احيانا من الدار في غير هذه المناسبات وذلك للذهاب إلى الحمامات العامة، التي كانت متوفرة بأعداد كبيرة في بغداد وفي المدن العراقية الأخرى، ولكن في هذه الحالة عليهن بالتستر من أعلى الرأس حتى أخمص القدم حتى ليتعذر على ازواجهن أنفسهم تميزهن إذا لاقوهن في الطريق. كان من الطبيعي أن ينعكس هذا النمط من الحياة على مستوى الوعي الاجتماعي لدى المرأة بشكل عام، ذلك لان مجرد قضائها للوقت بالقيل والقال وتكرار الزيارات، قد اثر على مستوى تفكيرها، بحيث لم يعد بإمكانها أن ترتفع إلى اعلى من نطاق تعلمها المحدود، أو أن تتخذ القرار المناسب في مسألتين مهمتين من مسائل حياتها الا وهما الزواج والتعليم. ففي مسألة الزواج حرمت المرأة حق اختيار زوجها في المدن وفي الارياف على حد سواء، وانما كان وليها يفرض عليها زوجا، غالبا ما يكون ابن عمها أو اقرب المقربين إليها، أو شخصا لم تره ولم تعرف عن اخلاقه شيئا، وقد تسبب هذا الامر بكثرة الطلاق، وفي تربية الاطفال وتوجيههم، إذ تشير كثير من الحوادث إلى أن جهل المرأة بأساليب التربية الصحيحة يؤدي في الغالب إلى وفاة عدد كبير من اولادها، سواء بسبب اسرافها الشديد في اطعامهم، أو سوء التغذية ورداءة البيئة وعدم الوقاية من الأمراض، وكان معظم اهتمام الام منصبا على محاولة اطالة اعمار اطفالها بمختلف الوسائل البدائية، بحيث يمكن القول دون مبالغة بانه لا يعيش منهم إلا شديد القوة الذين يستطيعون التكيف لظروف الحياة القاسية. في مسألة التعليم لم يكن الامر اقل وطأة مما هو عليه في حالة الزواج، فقد كانت فرص التعليم للمرأة أقل من فرص الرجل، لذلك فأن أكثر تلقينها كان منصبا على معرفة أمور الخياطة والتطريز وما شابه تلك الاشياء التي تعد ضرورية أكثر من سواها للإناث في مثل ظروفها، أما فرص التعليم الحقيقة فقد أحيطت بتقاليد صارمة حرمت المرأة من تعلم القراءة والكتابة لأنها تؤدي – حسب نظرة المجتمع السائدة في ذلك الوقت – إلى افسادها. وهكذا ادى تزمت فئات مهمة من المجتمع العراقي في الحفاظ على بعض الاساليب والعادات البالية، إلى تأخر المرأة وحرمانها من حقها الطبيعي في التعلم اسوة بشريكها الرجل، وظلت المرأة العراقية على تلك الحالة حتى أواخر القرن التاسع عشر، عندما كتب الحظ أن ينشئ لها مدرسة في بغداد، إلا أن انشاء مثل هذه المدرسة لم يمر دون أن تصاحبه عقبات عديدة، من قبل الطبقات المحافظة على القديم، التي كانت تتهم كل من يقوم بأرسال طفلته إلى المدرسة بشتى التهم الباطلة، ورغم ذلك كله فقد تم فتح هذه المدرسة، إلا أن مجلس معارف ولاية بغداد بحث عندئذ الشروط التي يجب توفرها في تلك المدرسة فقرر حصرها في الشروط التالية:

1. ان لا تكون احدى الدور المجاورة لها متسلطة عليها.

2. أن لا تكون شبابيكها مطلة على الشارع.

3. أن لا يكون في الدور المجاورة اشجار عالية.

وكانت الدوافع لوضع هذه الشروط هو تجنب الانتقادات الموجهة إلى مؤيدي فكرة وجوب تهذيب الفتاة وتثقيف عقلها، إلا أن الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي، الذي كان احد اعضاء المجلس المعارف قد ظل صامتا اثناء مناقشة الاعضاء – وكان معظمهم من المحافظين – فلما سكتوا قال متهكما أن هذه الشروط يا حضرات الاعضاء لا تنطبق إلا على منارة سوق الغزل. ولم يسلم الزهاوي نفسه من انتقادات المجتمع اللاذعة، إذ قام بنشر احدى مقالاته في جريدة (المؤيد المصرية، وهي تدعو إلى تحرير المرأة في العراق، وفك اسرها ومساواتها بالرجل على طريقة المفكر المصري قاسم أمين، ازدادت حملة المعارضة الموجهة ضده بحيث اضطر الزهاوي على التراجع عن افكاره. وبهذه النتيجة ظل وضع المرأة العراقية في العهد العثماني في غاية التأخر، مما منعها من ممارسة دورها الحقيقي في المجتمع كأم ومربية ناجحة ومتعلمة. وعلاوة على ذلك فأن العادات والتقاليد البالية تناهض تحرم كل تدخل في شؤون المرأة، إذ عندما ارادت الإدارة العثمانية في العراق عملية احصاء النفوس في عام 1893 جوبهت بمقاومة عنيفة، إذ أن الناس اعتبروا بان مثل هذا العمل انتهاك للحرمات وبدعة تمس شرفهم وتحط من قدرهم وكرامتهم، فخرجوا في الشوارع وتوجهوا إلى حيث يقيم الوالي العثماني، مطالبين بإلغاء قرار الاحصاء المذكور، ولم يتفرقوا إلا بعد أن قرر الوالي تأجيل النظر فيه. ولم تكن هذه الحادثة مقتصرة على بغداد، بل حدث ما يماثلها في الموصل، إذ قاوم الموصليون عملية احصاء الذكور والاناث في الولاية، مما اضطر الوالي العثماني على التنازل عن ا العملية نهائيا. بهذه الصورة فرض المجتمع كثيرا من القيود على المرأة في الوقت الذي اباح أمورا اخرى كانت تحط من كرامتها وقدرها، فقد وضع القيود على حرية تعليم المرأة، ومنع عملية احصاء الاناث بحجة أن ذلك يمثل امتهانا لكرامة الرجل، والحقيقة انه امتهان لكرامة المرأة اكثر من غيرها، كما شجع استمرار بعض العادات والتقاليد البالية التي تقلل من قيمة المرأة وتظهرها بمظهر الضعف والعجز. مع كل هذه الظروف الصعبة التي عاشتها المرأة العراقية، إلا انها لم تقف مكتوفة الايدي ازاء ما كان يجري في مجتمعها، فهي في بعض الاحيان تقوم بكثير من الاعمال التي يقوم بها الرجل في اوقت الحاضر، إلا أن مساهمتها اختلفت باختلاف وضعها في المدينة والريف والبادية. فنساء الطبقات العليا في المدن مثلا لم يكن مطالبات للقيام بنشاطات اقتصادية، كتلك التي تمارسها النساء في الطبقات الوسطى والفقيرة، ولهذا انصرافهن إلى مزاولة شؤونهن النسوية الخاصة، مثل الافراط في اقتناء الملابس المختلفة والمجوهرات وتناول القهوة والتدخين والقيام بزيارات جماعية لبعضهن البعض، وقد يصحب تلك الزيارات استدعاء المغنيات لإدخال البهجة إلى نفوس الحاضرات، أما نساء الطبقة الدنيا، والوسطى احيانا، فإنهن يمارسن بعض النشاطات، خاصة الغزل المنزلي، بل كانت هناك في بعض مصانع النسيج نساء يعملن في هذه المهنة الشاقة، وكن يعمدن إلى مشاركة الرجل في غزل الصوف بالمغازل ومن ثم غزله بالدواليب (الجومات)، وكانت هذه الصفة الاخيرة هي من مميزات المجتمع الموصلي أيضاً، الذي كان يعتمد في اقتصاده على صناعة الغزل، بحيث كان يعتبر أن عدم معرفة المرأة بالغزل عيب لا يغتفر في تربيتها المنزلية. وتتحمل المرأة الريفية والبدوية قسطا كبيرا من أعمال البيت في الداخل والخارج، ففي الداخل تقوم المرأة بتهبيش القمح (فصل الحبوب عن قشرتها) وطحنه بمطاحن تدور بالأذرع، وتهيئة الخبز، واستخلاص الزبد من الحليب، والقيام بأعمال الطبخ وجلب المياه من الابار والانهار أو الينابيع إلى غير ذلك. وفي الخارج تقوم المرأة بمساعدة الرجل في اعمال الحراثة والزراعة والحصاد وجني المحاصيل الأخرى، وفي رعي المواشي ورعاية الحيوانات، بل ان النساء قد يقمن في بعض الاحيان، بخاصة اولئك اللواتي يقمن بالقرب من مراكز المدن، بحمل بعض مشتقات الحليب والدجاج والبيض لعرضها للبيع هناك، والمرأة البدوية لا تقل اعباؤها ثقلا عن اعباء جارتها في الريف، إذ انها تضطلع بجميع ا الاهتمامات المادية وتقوم بأصعب الاعمال البيتية فهي تنصب الخيام وترفعها وتجلب المياه وتجمع الشوك الجاف للوقود وتحلب الماشية وتسوقها إلى المراعي والمورد وتستخرج الزبدة وتطهي الطعام، ويتحدث الرحالة سوفبوف عن اعباء المرأة البدوية فهي تقوم بغزل الوبر والصوف وحياكة الانسجة الصوفية لصنع الملابس. وعلى الرغم من كل التقييدات التي احاطت بحياة المرأة العراقية فقد كان لها شان في المعارك والحروب بخاصة في اثارة حمية المحاربين وحماسهم، إذ عندما تندلع الحروب تشهد النساء المعارك فينشدن الاهازيج بحق الرجال الشجعان لتشجيعهم على متابعة الحرب ويقذفن بالشتائم وجوه الخوارين والجبناء من الرجال، كما يمددن يد العون إلى المصابين والجرحى ويقع على عاتقهن حراسة الاسرى والمغلوبين. وليس ذلك فحسب بل أن المرأة العراقية قامت بدور السفيرات في الحروب في بعض الاحيان، إذ عندما قامت حالة حرب بين أحد شيوخ العشائر العراقي والدولة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، بعث ذلك الشيخ بزوجته لتفاوض قائد الحملة العثمانية، فاستقبلها القائد استقبالا فيه كل مظاهر التقدير والاحترام وانزالها في ديوانه ويدل هذا الامر على مدى الثقة التي كانت تتمتع بها المرأة العراقية والادوار المهمة التي كانت تناط بها في بعض الاحيان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *