اسم الكاتب : رياض سعد
كلام الناس كثير , والبعض منهم لا يكل ولا يمل من الثرثرة ؛ الا ان منهم من كان كلامه عسلا ودواء ومنهم من كان كلامه حنظلا وداء ؛ فالكلمة الطيبة قد تسمو بالإنسان والكلمة الخبيثة قد تسخطه , وفي هذه المقالة سنتطرق لمقولة من مقولات الكاتب المصري مصطفى محمود , يتحدث فيها عن الكلام السيء ويبين لنا اثاره ؛ اذ قال : (( ينكسر الزجاج فينتهي الصوت بسرعة , وتبقـى قطـع الزجاج تجرح من يلمسها ؛ كذلك الكلام الجارح الذي ينتهي , ويبقى القلب بسببه يتألم طويلا )) .
المواقف اليومية والحياتية التي يعيشها الإنسان تعرضّه أحيانًا إلى بعض الكلمات الجارحة والالفاظ المسمومة التي يكون لها أثر سيء عليه، فقد تمس تلك الكلمات السيئة كرامته وكبريائه او اهله وذويه او موطنه واصله ، لذا يتحذر العقلاء والحكماء واصحاب الشخصيات الناضجة والايجابية والواعية من الكلام ؛ مخافة اثاره وتداعياته السلبية , فهم يحرصون اشد الحرص على عدم التسبب بالأذى او السوء للأشخاص المخاطبين , من خلال انتقاء الفاظهم واختيار الكلمات المناسبة للمقام وللحدث ؛ وجاء في المثل ما يؤكد هذا السلوك العقلاني الواعي , اذ قالوا : (( لكل مقام مقال ؛ ولكل حدث حديث )) .
ان العقلاء والنبلاء يعلمون علم اليقين ؛ الاثار الخطيرة التي تترتب على الكلمات ؛ فالكلمة تفعل فعل الرصاصة احيانا , لذا نراهم يتحكمون بمسدسات افواههم واقلامهم ؛ فهم ينتبهون لكلماتهم عندما يكتبون للآخـريـن او عندمـا يعاتبونهم او يحاورهم او عندما يمزحون معهم او حتى عندما يتخاصمون معهم ؛ فهم يعرفون ان الكلمة سلاح خطير ؛ لذا يتعاملون معها بكل عناية وحذر ؛ لان التكلم بغير تفكير كالرماية بلا تصويب ؛ و ضربة الكلمة أقوى من ضربة السيف ؛ لذا جاء في الامثال : (( رب كلام أقطع من حسام )) فهم يحرصون كل الحرص على اختيار الالفاظ وانتقاء الكلمات عندما يتكلمون ؛ كي لا يقتلوا احدا ما , او يتسببوا بضرر بالغ او إعـاقـة نفسـيـة مزمـنـة لهذا او ذاك … ؛ اذ ان الكلمة الجارحة قد تحطم القلب وتؤذي النفس وتترك بصمة مؤلمة في ذاكرة المرء لا تمحى ابدا … ؛ فالبعض لا يخط يراعه الاصفر وقلمه الاسود سوى السم الزعاف ولا ينطق لسانه الا بالخبث واللؤم والاذى والضرر .
الكلمات قد تفعل فعل شظايا القنابل المنفلقة , بل قد تفعل الالفاظ فعل الرصاص الحي ؛ فالكلمة التي تنطلق من أفواهنا ؛ أحياناً تقتل كما تقتل الرصاصة المنطلقة من فوهة مسدس ؛ اذ طالما قتلت الكلمات اشخاص وسقطوا ولكن من دون دماء او جروح وكدمات , وقد يبقى اثر الالفاظ الجارحة موشوما في ذاكرتنا والى الابد , وربما بعض الكلمات ان نطقها صاحبها لمن امامه , تجعله متألما طوال حياته , فوجع الحديث السلبي وبعض الكلمات اكبر من وجع الامراض المزمنة والمستعصية احيانا , فهناك من يتقصد اسماع الاخرين ؛ الالفاظ الجارحة والكلمات المسمومة والاحاديث القاسية ؛ لإصابة الاخرين بالتداعيات السلبية لتلك الكلمات والاحاديث وكسر خواطرهم , و طالما كانت هذه الظاهرة سلاح بيد السفهاء والجهلاء واللؤماء والاعداء ؛ وقد جاء في الاثر الاسلامي : ان شر الناس من تخاف الناس لسانه , ومن المؤكد ان الناس لا تخاف صاحب اللسان الحلو والمنطق الجميل – حتى ان كتاب القران الكريم عندما يصف المؤمنين ؛ يؤكد على ان الله هداهم للكلام الطيب : ((وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ – الحج 24 )) وجاء عن النبي ما يثبت ذلك , اذ قال : (( الكلمة الطيبة صدقة )) بل ان كتاب القران الكريم امر اتباعه بالقول الحسن ((وَقولوا لِلنّاسِ حُسنًا – البقرة 83 )) – ؛ انما تتحاشى الناس صاحب الالفاظ الفاحشة والكلمات الجارحة وتبتعد عنه .
الهمج والاوباش قد يسمعون الاخرين وبصورة شبه يومية اقذر الكلمات وافحش الالفاظ ؛ وبعض العبارات المسمومة قد تسبب ضررا واذى للسامعين ؛ دون ان يهتم الهمج او يبالي الاوباش بذلك … ؛ اذ طالما تسببت الكلمات الجارحة بانتحار البعض او هجران البعض الاخر ورحيلهم او بدمار العوائل وخراب البيوت … ؛ البعض لا يهتم لما يقول , والبعض الاخر يستخدم الالفاظ المؤذية ربما للسخرية من الغير او المزاح معهم احيانا , حتى انهم اعتادوا على هذه الألفاظ البذيئة ؛ ويسمى بالعامية العراقية : (( ابو اللسان الزفر , او الشعار , او الساقط , ابن شارع … الخ )) و البعض يستهزئ من امكانيات ومهارات وتطلعات الاخرين ويطلق الكلمات القاتلة , والاخرون يتلقون كلماته كسكاكين تقتل احلامهم وطموحاتهم من دون رحمة في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى التشجيع والدعم المعنوي ممن هم حولهم ليصلوا إلى النجاح الحقيقي.
الفرق بين الكلمة الطيبة والقاسية كالفرق بين الارض والسماء ؛ اذ إن من الكلام ما هو أشد من الحجر، وأنفذ من وخز الإبر، وأمر من الصبر، وأحر من الجمر… ، بينما تفعل الكلمة الطيبة في الانسان ما لا تفعَله الأدْوية القويَّة، فهِي حياةٌ خَالدة لا تفْنى بِمَوت قائلِها ويبقى اريجها العطر عالقا بذاكرة الانسان … ؛ اذ ان قلوب بني البشر مزارع والكلمات اشبه بالبذور , فعندما يتكلم المرء بالكلام , فانه ينبت في قلب السامع بذرة , فالكلمة الطيبة تزهر مودة ورحمة , بينما تنمو الكلمة الجارحة وهي محملة بثمار الكراهية والحقد والحزن والاسى والثأر وكل مشاعر الشر والطاقات السلبية ؛ فللكلمات تأثيرها القوى في مسار أي علاقة ، ويخطئ من يعتقد ان العلاقات تحدد مسارها المواقف والتصرفات فقط , فقد تكون الكلمة المسمومة سببا في تدمير اقوى العلاقات وقطع امتن الصداقات ؛ فالكلمة قد ترفع شخصاً للسموات السبع أو تنزل بشخص لأسفل سافلين ؛ فبعض الكلمات كالرصاص تصيب القلوب وتدمـي المقل ؛ وبعضها كشرب الدواء تداوي الجروح وتشفي العلل ؛ وطالما اعاد السب والشتم والتعيير بالألفاظ الفاحشة والكلمات السوقية النابية فينا ترتيب اوراق الكرامة وحدود العلاقات مع الاخرين , ومراجعة الصداقات ونقد تصرفات وسلوكيات الاخرين ؛ ومن ثم اتخاذ القرارات الصعبة في انهاء هذه العلاقة او تلك .
لا تشحذ سيف لسانك بالألفاظ القاسية والكلمات الجارحة ؛ فقد تقتل الاخر بسيف اللسان كما تقتله بسيف البنان ؛ بل لعل موت القلوب والنفوس اشد وطأة على المرء من موت الاجساد والارواح ؛ والكلمة الجارحة عندما تنطلق من لسانك فهي كالرصاصة لا تسترد ؛ وعندما تصيب المرء المقابل ؛ عندها لا ينفع الندم , فقد سبق السيف العذل , كما الرصاص الحي الذي عندما ينطلق ويخترق جسد الضحية , تصبح الضحية جثة هامدة لا حراك فيها , ولا يمكن احيائها مرة اخرى ؛ كذلك الكلمات الجارحة حتى وإن ندم قائلها أو أعتذر فهي لا تحيي الميت .
قاتلة تلك الكلمات التي تُحْدِث في القلب جروحًا لا تلتئم، وتترك أَثَرًا في الذاكرة مريرًا لا يمحى مهما مر الزمن ، تذرف العين دُمُوعًا ، كلما دنت تلك الكلمات من القلب ، وعلقت في الذاكرة، فبعض الأشخاص كلماتهم طلقات تُصِيبْ في مقتل، قد تنهي حياة البعض، إذا كانوا من أصحاب المشاعر الحساسة، فَكَثِيرًا ما سمعنا بِوَفَاة بعض الأشخاص حُزْنًا من كلمة أصابتهم في مقتل … (1) ؛ لو عرف الجهلة والسذج كم من قلوب فارقها النوم بسبب كلمات قالوها دون أن يلقوا لها بالاً، لَما قالوا ما قالوا… ؛ فمن البشر من لا يعلم أنّ الكلمات كالرصاصة لا تُسترد ؛ و قد يُفرغ فيك في لحظة غضب ذخيرته من الكلام القاسي الذي يفاجئك بأذاه … ؛ فالبعض لا يحسن التعبير وقد تنزلق منه كلمات تصيب بالأذى دون أن يشعر، فهو لديه لا مبالاة، ولا يفكر قبل أن يتحدث، ولا ينتقي كلماته بعناية، فتصيب كلماته الآخر بأذى.
الكلمة إذا خرجت لن تعود، وإذا خرجت في غير موضعها فربما تجرح أو تقتل أو تصم أو تُدمي فأثر الكلمة ليس له حدود في حياتنا ؛ فالكلمات كالرصاص لا يمكن إعادتها بعد إطلاقها ولا حتى التبرؤ منها ، وبكل أسف كثيرًا ما تنطلق لتخرج في الزمان والمكان غير المناسب والشخص الذي لا يستحق ذلك القتل والاذى ، فتصيبهُ في المقتل مما لا يدع مجالًا للإصلاح لأن الجرح غائر بل قاتل ومميت احيانا ، وقد يُفرغ فيك أحدهم ذخيرته من الكلام البذيء الذي يفاجئك بأذاه، مُظهرًا ما حمله لك في صدره من ضغينة، واضعًا حدًا ربما يكون نهائيًا لعلاقة تربطك به ، فكلمة واحدة كفيلة بأنهاء علاقة امتدت لسنوات طوال (2) , اذ ان الكلمة الجارحة كطرقك للمسمار في خشب، والاعتذار كنزعك ذلك المسمار من الخشبة يترك حفرة او ندبة لا تزول وإن اقتُلع منها .
في المجتمعات المريضة والمأزومة والمادية – الى حد اللعنة – ؛ تصادف الكثير من الشخصيات المريضة والسلبية من مطلقي الكلمات السلبية وحاملي لواء كسر الخواطر ؛ وهم اصحاب القلوب المعتمة والنفوس الحقيرة وهم يتلذذون بإيذاء الآخرين ويتعمدون اسماعهم الكلمات القاسية ؛ وامثال هؤلاء تعامل معهم كما تتعامل مع الكلاب السائبة ؛ تجاوزهم وتجاهلهم وابتعد عنهم كما يبتعد النظيف من الاجرب … ؛ نعم قد لا تستطيع أن تمنع الناس من الكلام عليك لكنّك بكل تأكيد تستطيع أن تمنع نفسك من التأثر بما يقولون لأنّ مفتاح عقلك بيدك لا بأيدهم , عندما تكون على حق تستطيع أن تتحكم في أعصابك ؛ فالشتم بحد ذاته لا يضرك انما الذي يضرك ان تفكر بالشتم او تهتم لأمر الشاتم , ولا تنسى ان الله بعظمته لم يسلم من السب والشتم .
……………………………………………………………….
- كلمات كالرصاص / نجلاء محجوب / بتصرف .
- بين كلمات الرصاص ورصاص الكلمات / حسام فوزى جبر / بتصرف .