654bc469-bf19-42c5-adda-962126ec3e44

اسم الكاتب :  نظير الكندوري

تحرص كل دول العالم المتحضر، على تعزيز الهوية الوطنية لدى شعوبها، لما لهذه الهوية من أهمية في الحفاظ على وحدة البلاد، وإشاعة روح الطمأنينة والانسجام والتناغم بين مواطنيه، ذلك لأنها تخشى من المخاطر التي يُمكن أن تعصف بالبلد، حينما لا تكون هناك هوية وطنية جامعة لأفراده.
وعلى هذا، مضت دول العالم الناجحة، حينما ركزت على بناء مرتكزات وعناصر هويتها الوطنية وجعلت شعوبها تذوب فيها، بينما فشلت الدول التي لم تأخذ بهذه المسلمات الضرورية في بناء دولها، مما جعلها عرضة للتمزق والتشظي، والدخول في حروب أهلية وعرقية وطائفية. فعلى سبيل المثال من تاريخنا المعاصر، كانت الولايات المتحدة الأمريكية وبعد استقلالها عن التاج البريطاني، تُركز على تأسيس هويتها الأمريكية الجامعة، لتميزها عن الهوية البريطانية، وبسبب أن هذه الدولة كانت بحاجة للمزيد من المهاجرين ومن مختلف الدول، وكل هؤلاء المهاجرون يحملون شتى الثقافات والولاءات غير الأمريكية، كانت السلطات الأمريكية – وبالاستعانة بمفكريها وباحثيها في علم الاجتماع وباقي العلوم الإنسانية- تعمل على تأسيس الهوية الوطنية الأمريكية الجامعة لدى هؤلاء المهاجرين الجدد، الذين ينحدرون من مختلف الأعراق والثقافات، لتصهرهم بثقافة واحدة جديدة وهوية وطنية أمريكية واحدة، من خلال عملية تسمى بـ”الأمركة”. فاليوم لا تجد أمريكي يوالي دولة مثل كندا على حساب دولته الولايات المتحدة، رغم أنه يشترك معها في اللغة وأحيانا يشترك مع الشعب الكندي بأصل أوربي واحد، ولا تجد أمريكي من اصل لاتيني، يوالي دولة المكسيك أو أية دولة من دول أمريكا اللاتينية لأنه يتكلم لغتهم أو لأن أصله من تلك الدولة، إنما ولاؤه لأمريكا التي اكتسب هويتها الوطنية.
نفس الأمر ينطبق على بلدان أخرى، تعاقَبَ على حُكمها عشرات الممالك والجمهوريات. فنجد أن روسيا مثلًا وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت حريصة على الهوية الروسية لأبناء شعبها، رغم انحدارهم من عرقيات متعددة، وديانات مختلفة. نفس الحال نجده في الصين، حينما ركز الحزب الشيوعي الصيني على ضمان ولاء الشعب للحزب الحاكم والوطن الصيني الكبير، مع إن الشعب الصيني مكون من مئات الأعراق، ويدين شعبه لمختلف الديانات، لكن ولاء الجميع هو لهذه الدولة العملاقة، وكذا الحال في الهند وباقي الدول التي استطاعت صهر مكونات شعبها جميعًا في هوية وطنية واحدة جامعة.

محاولات متعمدة لتمزيق الهوية العراقية الوطنية الجامعة
أما الحديث عن العراق وبناء هويته الوطنية الجامعة، فهو لا يختلف كثيرًا عن بلدان العالم الأخرى، بل أن لديه من العناصر المساعدة لبناء مثل هذه الهوية الوطنية الجامعة، أكثر بكثير من بعض الدول التي تعاني من مشاكل عرقية وقومية وتاريخية في غاية التعقيد.
فعند النظر إلى العراق بحدوده الحديثة، نجده إنه عبارة عن مساحة من الأرض استقطعت من الدولة العثمانية، تسمى العراق، يضم مجموعة من القوميات والأديان والأقليات، وبما أن تغير الخرائط السياسية لما بعد الحرب العالمية الأولى هو أمر يكاد يكون مستحيلًا، فيجب على النخب العراقية، العمل على تأسيس الهوية الوطنية العراقية وفق ما يحتويه العراق بجغرافيته الحالية التي ورثناها بعد الحرب العالمية.
بعد “ثورة العشرين” العراقية التي قامت بإجبار الاحتلال البريطاني على إنشاء المملكة العراقية بزعامة الملك فيصل بن الحسين، ذو الأصول الحجازية، حينها تم انشاء النظام السياسي الملكي، ورسمت آلية لتداول السلطة السلمي عبر الانتخابات، واستطاع النظام الملكي الحفاظ على هوية وطنية عراقية بحدها الأدنى، الأمر الذي جنب العراق العديد من المشاكل، باستثناء القلاقل التي أحدثتها بعض القبائل الكردية في شمال العراق، وكانت المعالجة الخاطئة للنظام الملكي لحل المشكلة الكردية، ثم تبعتها معالجات خاطئة من قبل الأنظمة العسكرية التي جاءت بعد النظام الملكي لحكم العراق، أكبر الأثر في مفاقمة المشكلة الكردية حتى يومنا هذا، مما مهد لظهور عدد من الأحزاب الكردية الانفصالية التي تنادي بالانفصال عن العراق.
أما فيما يتعلق بالمكون العربي الشيعي، فقد لعبت جارة السوء إيران على هذه الورقة مبكرًا، وكانت تغازل أحلام بعض رجال الدين الشيعة لتحقيق طموحاتهم ببناء دولة شيعية في العراق دون مراعاة للتنوع الموجود فيه، ومن الجدير بالذكر، أن الدعم الإيراني لبعض الأطراف الشيعية، بدأ بوقت مبكر قبل مجيئ الدولة الخمينية الطائفية، – أي منذ عهد الشاه-، ورغم أن الشاه كان يدير نظامًا علمانيًا مواليًا للغرب، لكنه استغل البعد الطائفي، لتمديد نفوذه إلى العراق. وحينما جاء نظام الخميني، ورث هذه الاستراتيجية ووسعها إلى مدى أكبر، واستطاع النجاح بجعل ولاء الأحزاب الشيعية الطائفية، لدولة الخميني وليس للدولة العراقية، بل إن بعض تلك الأحزاب، قاتلت مع الخميني ضد وطنهم العراق في حرب الثمانينات من القرن الماضي.
لكن بعد انهيار أخر نظام عراقي عام 2003، وانهيار الدولة العراقية معه، عمِد المحتل الأمريكي والأحزاب التي جاءت معه إلى إلغاء الهوية الوطنية العراقية الجامعة، وتسويق ما تؤمن به تلك الأحزاب من أفكار انفصالية، وولاءات خارجية، وطموحات طائفية.
فمثلًا الأحزاب الكردية، كانت حريصة كل الحرص، على تضمين الدستور العراقي الجديد، موضوع الإقليم الكردي، تستهدف من خلاله، بناء البنية التحتية المؤدية لتشكيل الدولة الكردية المنفصلة عن العراق مستقبلًا، فيما كانت الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، هي الأخرى حريصة على تفعيل موضوع تشكيل الأقاليم، لانهم يبيتون النية لاستقلالهم بجنوب العراق بإقليم خاص بهم موالي لإيران، لكنهم غيروا رؤيتهم تلك، حينما استطاعوا السيطرة تمامًا على مقاليد الحكم في العراق. أما فيما يتعلق بالعرب السنَّة، فقد نادى سياسيهم المشاركين بالعملية السياسية، بإقليم خاص بهم ليتخلصوا من سيطرة الأحزاب الشيعية على مناطقهم، مخدوعين بوهم أن دول الجوار العربية ستساندهم في ذلك. وبالتالي أصبح الولاء للقومية وللطائفة والعرق مقدما على الولاء للوطن، وكل تشكيل سياسي يحاول أن يجد لكيانه هوية فرعية يدافع عنها لتكون له كرصيد انتخابي، أو تكون عذرًا لبقائه في السلطة.
وفي ظل هذا التخبط في تلمس الهوية الوطنية العراقية، وشعور الشعب العراقي بالخراب الذي عم البلد نتيجة ذلك، كانت لبعض المثقفين العراقيين ردود فعل مختلفة، وبعضها لم تكن بأفضل من مما جاء به السياسيين. فمنهم من دعا للدولة الكونفدرالية، ومنهم من دعا لنظام حكم محاصصة قومية وطائفية كما هو معمول به في لبنان، ومنهم من دعا إلى الانفصال التام حسب القوميات والطوائف، وكل هذه الخطط، جاءت كردة فعل عاطفية غير مدروسة، أو نتيجة الأوضاع الصعبة التي عاشوها في فترة ما بعد 2003، وكل فكرة من تلك الأفكار، تحمل معها كمًا كبيرًا من المشاكل والعقبات التي تؤذي الشعب ولا توفر له طمأنينة العيش في بلده، كما أن الدويلات الصغيرة المكوناتية (الكونتانات) التي ستتشكل، ستكون ضعيفة للدرجة التي ستفتح الأبواب واسعة أمام كل أنواع النفوذ الدولي فيها مستقبلًا.

ما هي عناصر الهوية العراقية الجامعة؟
لكن مفكرين وباحثين عراقيين آخرين، يرون أن الحل لكل تلك الإشكالات، هو العمل على إثراء وانضاج مفهوم الهوية الوطنية العراقية الجامعة، فمن غير المعقول أن كل بلدٍ يحوي على عدد من القوميات والطوائف، ينتهي به المطاف ليكون مصيره التمزق والتشظي، لأنه لا يوجد بلد في العالم حاليًا لا يضم داخله مختلف القوميات والطوائف العرقية والدينية، لكنها وبسبب الهوية الوطنية الجامعة لهم، نراها بلدان موحدة وقوية ويتمتع أفراد شعبها بشعور المواطنة الحقيقية.
وبالتالي فإن مهمة النُخب العراقية في الوقت الحالي، هي العمل على تعريف الهوية الوطنية العراقية الجامعة، وإعطائها المميزات التي تختلف بها عن هويات البلدان الأخرى حتى تكون مرجعًا لكل عراقي ينتمي لهذا الوطن. وقبل هذا وذاك، يجب العمل على إزاحة كل ما يؤثر سلبًا على إعادة صياغة هذه الهوية الوطنية العراقية، والمقصود بهذا هو النظام الحاكم الحالي ودستوره الملغم. فقد ساهم النظام الحالي ودستوره، على إرساء عناصر الفرقة الاجتماعية بين مكونات الشعب الواحد، وشجع الأفكار الانفصالية، وأرسى معالم التخلف والتراجع إلى الوراء في عقدهم الاجتماعي الذي ينظم حياة أبناء هذا البلد.
يجب أن تحتوي هوية العراق الوطنية الجامعة، على مفاهيم الولاء والانتماء للوطن العراقي بالدرجة الأولى، وتأتي جميع الانتماءات الأخرى (قومية أو دينية أو طائفية)، بعد الولاء والانتماء للوطن. وعلى الهوية العراقية أن تعزز شعور الاعتزاز للمواطن العراقي بالانتماء للعراق كدولة وشعب ونظام سياسي، يتقاسمون فيه الحقوق بنفس طريقة تقاسمهم للواجبات.
هذه الهوية العراقية الجامعة ستجعل ولاء الكردي العراقي للعراق وليس لـ(كردستان الكبرى)، وستجعل ولاء العراقي الشيعي للعراق، وليس لإيران التي يتشارك معها في المذهب، وستجعل ولاء العراقي السنَّي للعراق وليس لدول عرب الجوار رغم مشاركتهم بالقومية والمذهب والدين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *