نوفمبر 22, 2024
images (1)

اسم الكاتب : وليد يوسف عطو

(1):كتبت الدكتورة عصمت السعيد وهي زوجة صباح نوري السعيد في كتابها (نوري السعيد رجل الدولة والانسان ) – ط 2 – 2003 – دار الساقي – بيروت مايلي :

( لااخفي بانني كنت اتوقع ان اجد في بغداد اوضاعا تختلف عما رايته ,اذ كانت اذهاننا منذ الطفولة مشحونة بسحر روايات الف ليلة وليلة وبساط الريح ..الخ , واذ بي اصل الى مدينة لااثر فيها للقصور العباسية ,او حتى لقبور من حكمونها .. اذ كانت الجسور عبر دجلة ماتزال طائفة على زوارق عائمة .

وكان شارع الرشيد المشهور هو الشارع الرئيسي الذي يخترقها فتنتهي المدينة من جهة باب المعظم ومن الجهة الاخرى بالكرادة .اما المنطقة الشاسعة التي احتلتها بغداد فيما بعد الى الكاظمية ,فكان المواطنون فيها يسكنون مناطق معدودة تكتنفها البساتين .

انني لااذكر هذه التفاصيل تصغيرا لشان مدينة كانت درة العالم العربي في سجل التاريخ , بل لاثبات ان العهد الهاشمي انجز المعجزات في مدة وجيزة لاتتجاوز الاربعين عاما. فاستطاع ان يقيم في تلك المنطقة وطنا متماسكا حرا ابيا اسمه العراق ,له صولة وكلمة واعتباره الكامل بين الامم , وعلى ارض لم تكن فيها سوى اشلاء ماانفرط وتبقى من تركة الحكم العثماني الراحل.

وقد اثبت مااقوله ذلك البحث الذي كتبته بالفرنسية في مستهل سنة 1958 وحصلت به على شهادة الدكتوراه من جامعة باريس بامتياز ,وموضوعه ( العراق ودور العوائد النفطية في سير تطوره ), وهو بحث علمي خالص يبين بشكل واضح وباحصاءات وارقام ثابتة مقرونة بوثائق ماكان عليه العراق في سنة العشرين , وما وصل اليه من تطور اقتصادي واجتماعي في سنة 1958 , وذلك رغم ظروف حرجة وحروب عالمية ضارية .

وفي هذا البحث يظهر جليا ماوصل اليه العراق وماكان يامل ان يقوم به مجلس الاعمار في ارجائه من مشاريع بناءة تحقق الرفاهية والاستقرار في الشرق الاوسط بالتعاون الاخوي الخالص مع الامم المتحالفة في تلك المنطقة ..لقد تحدد يوم الزفاف ( زفاف عصمت السعيد من صباح نوري السعيد )ليوم 22 اكتوبر ,فسمحت لي الظروف في الايام التي امضيتها في بغداد قبل ذلك التاريخ بالتعرف على معظم سيدات المجتمع العراقي وسيدات الهيئات الدبلوماسية على حد سواء .

لقد بدات اولا بزيارة المقربين من الاهل , وكانت اول زيارة رسمية لي بعد ذلك لجلالة الملكة عالية زوجة الملك غازي في قصر الزهور .ومن جميل الصدف ان كان في ضيافتها حينذاك الاميرة ملك فيظي خطيبة سمو الامير عبدالاله .وكانت معرفتي بها ترجع الى ايام اقامتنا في مصر ).
ثم تصف الدكتورة عصمت السعيد لقائها الاول بالملكة الراحلة عالية زوجة الملك غازي ووالدة فيصل الثاني :
(كانت بساطة مظهرها ,وتصرفاتها الطبيعية الرزينة ,اكثر ما استرعى انتباهي وامتلك مشاعري .لم يكن في حديثها اي تكلف ,ولكن شخصيتها الواضحة كانت توحي بالاحترام .

كان في ترحيبها رقة وكياسة ,فلما سالتهاعن صحة ولي العهدالذي كان عمره في ذلك الوقت يناهز السنة ,تفضلت جلالة الملكة فورا وطلبت ان يحمل الامير الصغير الينا لااره .فلما حضر الى القاعة اخذته برفق لتضعه على ركبتي وهي تنظر اليه بحنان بالغ .

كان هذا اول لقاء لي مع الطفل الذي اصبح فيما بعد فيصل الثاني , ملك العراق . ومنذ تلك الساعة اصبح له في قلبي مكانة خاصة .لقد عاصرته في طفولته وشبابه . وعندما اعتلى عرش العراق رافقت خطيبته اثناء زيارتها القصيرة لبغداد في غضون سنة 1958 .ولما فقده العراق وقضت الثورة الغاشمة عليه وعلى اهله واهلي في بغداد ,ظلت لوعة استشهاده تضطرم في احشائي . وكانت مصيبتي وحرقتي على استشهاد اهلي في كفة , وحزني على مااصاب العراق بفقد فيصل في كفة اخرى .وهكذا ارادت الاقدار ).

(2 ): تعمدت في هذا الاقتباس الطويل من كلام الدكتورة عصمت السعيد , ان اعرض بايجاز شديد اوضاع العراق المتخلفة عند استلام الاسرة الهاشمية ولنوري السعيد مقاليد الحكم في العراق . وكيف تغير العراق , واصبحت بغداد حاضرة للشرق وللعالم في التقدم والنهضة والمدنية والحداثة والعلم .ان عشرات السنين التي تفصلنا عن يوم مجزرة قصر الرحاب ومقتل العائلة المالكة ونوري السعيد وابنه صباح والامير عبد الاله واخرون على يد الغوغاء وزعماء الانقلاب من العسكر تثبت ان هؤلاء الضباط ومن ناصرهم من الاحزاب الشمولية السرية قد قاموا باحداث قطيعة مع العهد الملكي ومسحوا الذاكرة العراقية ومحاولة برمجتها وفق عقلية القطيع .

فهم يتحدثون عن انجازات ثورة 14 تموز 1958والزعيم عبد الكريم قاسم بان الثورة اخرجت العراق من منطقة الاسترليني ومن الاحلاف العسكرية , مثل ميثاق بغداد والاتحاد العربي الهاشمي مع الاردن , وغيرها من الانجازات . اقول لكم وبلا مواربة ان الدينار العراقي كان يمتلك غطاءا من الذهب واصبح في عهد الجمهوريات الانقلابية المتعددة مجرد ورق لاقيمة له .

لقد كان نوري السعيد يمتلك نظرة ثاقبة الى المستقبل عندما دعا الى تكوين ( سوريا الكبرى ) او مابات يعرف لاحقا بمشروع الهلال الخصيب والذي يتضمن حكما ذاتيا لليهود وامتيازات خاصة للموارنة . واقام ميثاق بغداد والذي ضم الباكستان وايران وتركيا والعراق وبريطانيا والولايات المتحدة الامريكية كعضو مراقب ,تتعاون هذه الدول فيما بينها اقتصاديا وسياسيا وامنيا لحفظ سيادة واستقلال هذه الدول . وتكون هذه الكتلة محمية من الدول العظمى المشاركة في الميثاق .
لقد كان مشروع نوري السعيد اقرب مايكون الى مفهوم السوق الاوربية المشتركة .هذاالمشروع كان سيعمل على تحجيم اسرائيل ضمن نطاق حدودها آنذاك .لذلك وقفت اسرائيل ضد مشروع سوريا الكبرى وميثاق بغداد ومعاهدة بورتسموث .كما وقف عبد الناصر ضد هذا المشروع لانه اراد السيطرة على العالم العربي كله.كان طموح نوري السعيد تحقيق وحدة العرب بمشاريع واقعية قابلة للتنفيذ .

لقد كانت هذه المشاريع تتعارض مع مشاريع الدول الاستعمارية الكبرى , بريطانيا والولايات المتحدة الامريكية وفرنسا ومصالح اسرائيل والحركة الصهيونية, ومع مشاريع الاتحاد السوفييتي .لذا قامت بريطانيا بالتشجيع على قيام انقلاب الضباط الاحرار في العراق في 14تموز 1958 , وبمباركة امريكية . حيث اختلف الوضع الدولي , واصبح العراق مرشحا لان يكون بمصاف الدول الاوربية تقدما .

ان منجزات الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم لم تاتي من فراغ, بل هي استمرار للتراكم التاريخي والعلمي والثقافي والمعرفي النهضوي لانجازات العهد الملكي .وصوروا لنا قاسم بانه صاحب الانجازات الفريدة من نوعها . انهم ينكرون انجازات العهد الملكي ويصفونه بابشع الاوصاف .

لقد احدث انصار الجمهورية قطيعة كاملة مع العهد الملكي . وصوروا لنا عبد الكريم قاسم بانه وحده صاحب هذه الانجازات . نجد اليوم على صفحات الفيسبوك من روابط انصار الملكية ينكرون انجازات عبد الكريم قاسم , وبالمقابل ينكر انصر قاسم والجمهورية الاولى انجازات العهد الملكي .من المؤكد ان حدث 14تموز 1958 تم بمباركة بريطانية – امريكية وبتاييد اسرائيلي صهيوني .

لقد استخدم العهدان الملكي والجمهوري اساليب الحرب الباردة وارتكبا الكثير من الاخطاء , ولابد من مراجعات فكرية . اما تقديس التاريخ والشخصيات والرموز فهو يؤدي بنا الى الهلاك والانقراض !
لايجوز في ظل الديمقراطية ان يمارس العسكر للسياسة. رجالات العهد الملكي مثل نوري السعيد تخرجوا من الكليات العسكرية العثمانية . وبما ان الجيش يمتلك تراتبية هرمية ويستند الى الانضباط العالي والخضوع للاوامر , لذا لامجال للحديث عن الديمقراطية في ظل سلطة عسكرية . ونفس الكلام ينطبق الانظمة الجمهورية .

الجيش ليس مؤسسة سياسية بل مؤسسة عسكرية تستخدم للدفاع عن الوطن والامة , لكنها استخدمت في اغلب الاحيان كسلطة قمعية ضد الشعب في مختلف العصور من ملكية وجمهورية لقمع المعارضة .وبما ان الجيش مؤسسة تقوم على التراتبية الهرمية والانضباط الشديد , لذا تتعارض مؤسسة الجيش مع الديمقراطية .
نفس الحال ينطبق مع الاحزاب السرية حيث التراتبية الهرمية والايديولوجية الشمولية . لذا لم تستطع هذه الاحزاب التي ساهمت في الاطاحة بالنظام الملكي ان تراجع سياساتها وان تنتقد نفسها وتمارس النقد الذاتي .ولنفس الاسباب لم يقم النظام الملكي بمراجعات لسياساته .

لقد تعود العراقيون على سياسة الخضوع والخنوع لزعيم العشيرة ولزعيم الحزب ولرجال الدين . ان الديمقراطية صيرورة تاريخية تستغرق حقبة تاريخية كاملة لترسيخها .وبما ان انظمة الحكم لدينا كان يلغي احدها نظام الحكم السابق له , لذا لم تتطور عندنا اساليب الحكم ,بل ترسخت بدلا عنها سياسة العنف والاقصاء للاخر المختلف والتطرف والقتل وعدم الاعتراف بالراي المخالف .
الديمقراطية ليست شعارات ,بل ممارسات .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *