نوفمبر 22, 2024
ااااا

اسم الكاتب : وليد يوسف عطو

كان الخصب في الحضارات الزراعية القديمة يعني حقنا متصلا للكون بمصل الجنس والجمال , وكان هذا المصل يفجر الحياة في كل مسار يمر به .
يقدم لنا الشاعر العراقي والمؤلف المسرحي ومؤرخ الاديان والحضارات د . خزعل الماجدي ,استاذ التاريخ القديم وتاريخ الفن في جامعة عمر المختار – كلية الاداب والفنون في درنة , في كتابه ( ادب الكالا . . ادب النار – دراسة في الادب والفن والجنس في العالم القديم )- ط1 -2001 – حقوق الطبع محفوظة للمؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – لبنان . .. دراسة في الادب والفن والجنس في الحضارات القديمة ,وفي عبادة الالهة الام وطقوس التشبيه والمحاكاة ومنها طقس استنزال المطر في العراق القديم (طقس وصلاة الاستسقاء ) .
عبادة الالهة الام
كانت طقوس التشبيه والمحاكاة تستند الى ديانات الخصب وعبادة الالهة الام في العصر الحجري الحديث ( النيوليت ) .
حينما كان الرجل منشغلا بصيد الطرائد وجمع القوت , كانت المراة الملازمة لابنائها تقضي وقتها في جمع الحبوب , ثم توصلت الى تكثيره عن طريق دفن الحبوب في الارض من اجل خزنه في بداية الامر . ولكنها فوجئت ان هذه الحبوب انتجت نباتات تحمل اضعافا من تلك الحبوب .وهكذا تهيا للمراة القيام باعظم اكتشاف في التاريخ وهو اكتشاف الزراعة .
وقد قام الانسان والرجل بصفة خاصة بربط عملية التكاثر عن طريق الزراعة بالمراة فقط ,لانه كان يعتقد ان قدرتها الخاصة بالولادة هي التي تجعلها مؤهلة للزراعة .
ولم يكن الرجل وقتها يعرف دوره في حمل المراة . هكذا اصبحت القداسة تحيط بالمراة , وكان لابد من تصور قوة خصب في الكون على شكل انثى . هكذا ارتفعت الام الى مرتبة الالوهية . واصبحت الالهة الام لاحقا تبدو كانها سبب اخصاب الارض في العقيدة الدينية .
ان الانسان العراقي القديم قام اولا بتشبيه الارض بالمراة البدينة ذات الاعضاء الجنسية الكبيرة كالهة كبرى بدلا من الحيوان المقدس . ثم اصبحت المراة زعيمة القوم وكانت صفاتها بالضرورة القوة والخصب والصحة لانها تناظر الالهة الام ,( وهذا يذكرنا بشخصية النبية سجاح نبية بني تميم ) . وظهرت طقوس العبادة التي تحاكيها ايضا .
المصارعة كطقس ديني درامي
جذور شعار النازية الممثل بالصليب المعقوف
لم تكن المصارعة في العصور ماقبل التاريخية نشاطا رياضيا ,بل ارتبطت بالحياة الدينية (مصارعة يعقوب مع الرب في سفر التكوين من التوراة مثالا لذلك ) . ان المراة التي تزعمت النشاط الاجتماعي والسياسي والديني في ثقافات العصر الحجري الحديث الشمالية في وادي الرافدين , كانت تختار زوجها او عشيقها عن طريق اجراء منافسة قوى بين الرجال الاشداد ليكون الزوج جديرا بالمراة الزعيمة . وكانت مسابقات المصارعة بين الرجال تجري كل عام قبل طقس الزواج المقدس الديني , حيث يتم زواج المراة الزعيمة باعتبارها ممثلة للالهة الام من الرجل القوي المنتصر في المصارعة ,وبزواجهما هذا يشار الى اخصاب الطبيعة .
انه مما يلفت الانتباه ان مشاهد المصارعة في الاعمال النحتية والتشكيلية تظهر في العصر السومري القديم حوالي ( 2500 – 2350 ق . م ) ثم تزول في العصور اللاحقة . وهذا يدل على ان طقس المصارعة كان يمتد بجذوره الى فترة قديمة من هذا التاريخ بكثير .
يرى الدكتور فوزي رشيد ان المصارعة كانت جزءا من طقوس استنزال المطر ( صلاة الاستسقاء ) في شمال العراق , حيث توحي لنا ان رياضة المصارعة في العراق كانت تمثل في اغلب الظن الاختبار الذي يختار من خلاله الكاهن الذي ياخذ على عاتقه مهمة استنزال المطر , والذي يكون كذلك عريسا في طقس الزواج المقدس ( رشيد فوزي : من هم السومريون ؟ ) . ان صفات الشباب والحيوية والسمنة هي التي تجمع بين العريس والمصارع . وتشير الى ماتمتاز به الالهة الام البدينة المخصبة , ولان الزواج المقدس كان يحصل في ربيع كل عام لذلك كان سرعان مايفشل الكاهن , المصارع , العريس في الاختبارات القادمة لظهور رجل اقوى يليق بالكاهنة العليا الممثلة للالهة الام . ويذكرنا هذا الامر بفكرة ( الغصن الذهبي ) في عبادة ديانا , حيث يتمكن الشخص الذي يكسر هذا الغصن من شجرة محرمة من منازلة الكاهن ,فاذا استطاع قتله فانه سيحصل على لقب ( ملك الغابة ) . وكانت ديانا تقوم بدور الالهة الام في هذا الطقس ( حسب فريزر – الغصن الذهبي – دراسة في السحر والدين ) . ويرى فرويد ان جذور هذا الطقس تكمن في تقاليد القردة العليا التي انحدر منها الانسان , حيث القرد الاقوى الاعظم هو الذي يسيطر على اناث مجموعته حتى يتهيا له قرد اقوى منه يقوم بقتله ويحتل مكانه .
ان هذه الجذور العميقة توضح ان طقس المصارعة يقوم على اساس ديني – غذائي – جنسي قبل ان يكون رياضة . وانه كان ذات يوم شكلا دراميا بما يحتويه من صراع ومشاهدين وروح ديني يعطيه عمقا طقسيا .وهذه تشكل جوهر الدراما واحد جذورها الاهم في العراق القديم .
استنزال المطر ( الاستسقاء )
كشفت لنا ثقافة العصر الحجري الحديث في المناطق الشمالية من العراق , وخصوصا في سامراء في حدود الالف الخامس قبل الميلاد عن مجموعة من الاثار الدالة على ظهور طقس استنزال المطر ( الاستسقاء ) ,لعل اهمها ذلك الطبق الخزفي الذي تظهر عليه اربع نساء متقابلات , تتطاير شعورهن من اليسار الى اليمين ( باتجاه دوران عقارب الساعة ) , وهن في مظهر عاري يؤدين رقصة واضحة اساسها نثر الشعر باتجاه الشرق . ويشكل مظهر النسوة مايشبه الصليب المعقوف او رمز السواستيكا ( الصليب المعقوف ) , الذي هو رمز الخصب الانثوي الذي تمثله المراة في نهاية العصر النيوليتي الحديث ( العصر الحجري الحديث ) . ويجسد هنا علاقة المراة بالخصب توسلا بالمطر الذي هو اساس الزراعة في منطقة مثل سامراء , التي تقع جنوب الخط المطري في وادي الرافدين .
وقد انتشر هذا الرمز انتشارا واسعا في العالم القديم انطلاقا من وادي الرافدين , حيث نجده وقد ترسخ في الحضارات الارية ليدل على الخصب , حتى جاءت النازية فاعتبرته رمز التفوق الاري وصار مع ممارساتها العنصرية رمزا للخراب والقتل والعنف .
ان النساء العاريات الاربع محاطات بثمان عقارب تسير وراء بعضها من اليسار الى اليمين . وهذا مايعزز علاقة المراة بالالهة الام التي كان بعض رموزها العقرب والافعى . فقد كانت الافعى نموذجا للتكامل الانثوي عندما تضع ذيلها في فمها وتشكل دائرة الكون اللامتناهية او دائرة التاو التي انبثق الكون منها . هذه الدائرة ترمز الى الخلود والى نشؤ الكون وبالتالي الى نشؤ الحياة . اما العقرب فلقد كانت طريقة تفقيس البيض التي في جسدها عن طريق شق العقارب الصغيرة لظهرها , نموذجا فريدا للالهة الام التي كان ابناؤها يفترسونها بعد الولادة مضحية بحياتها . وكذلك رمز الانسان الرافديني للالهة الام بالسمكة التي تظهر في الاواني الخزفية بدلا من العقرب .
وربما شكلت الجداء ورمز السواستيكا ( الصليب المعقوف رمز الخصب الانثوي ) بقرونها . ان هذه الاثار كلها تدل على ان ترميزة الاستسقاء هي السواستيكا ( الصليب المعقوف ) التي كانت تنتشر في ثقافة سامراء كرمز للخصب المتحرك .ذلك لان انسان العصر الحجري الحديث عندما هبط قليلا جنوب مواقعه الاولى اكتشف ان الماء يعوزه في الزراعة . وكان المطر هو المصدر الاول للمياه لانه لم يكن قد عرف بعد السيطرة على مياه الانهار والاستفادة منها في الزراعة . ولكن سامراء كانت جنوب خط الامطار , لذلك تتذبذب فيها موجات المطر دون نظام معين . ومن الافضل القيام بطقوس سحرية لاسقاط هذه الامطار , وتكاد رقصة نثر الشعور ( جمع شعر )ان تكون مثالا جيدا لتطبيق قانون السحر الاول الذي هو القانون التشابهي , حيث العلل المتشابهة تعطي نتائج متشابهة . فالنساء الاربع اللواتي ينثرن شعورهن يقمن بتحريك الهواء والغبار في هذا الجزء من العالم ( حيث يجري الطقس ) مما يؤدي الى تحريك هواء العالم كله .وهو مايجلب الغيوم ويجعلها تمطر , خصوصا ان المراة هي التي تؤدي هذا , والغيوم والامطار والمراة كلها عناصر خصب .ان طقس الاستسقاء السحري هو طقس درامي في جوهره , لانه يقوم على صراع الخصوبة (المراة وشعرها ) مع الجفاف وتذبذب نزول المطر . ولاشك انه كان يجري تحت رعاية الكهنة او الكاهنات والناس الذين يشكلون النظارة والذين يترقبون الطقس.
ان مايؤكد هذه الحقيقة هو العثور على قطعتين خزفيتين في سامراء تمثل كل واحدة اربع راقصات متشابكات بالايدي , يؤدين رقصة تكاد تشبه الدبكة العربية المعروفة , وقد رجح اغلب الباحثين انها رقصة استسقاء ايضا .ويذهب الدكتور فوزي رشيد الى ان طقس الاستسقاء هو جذر اعياد اكيتو السومرية والبابلية , ويدلل على ذلك من خلال العلامات المسمارية التي كتبت بها كلمة (اكيتو ) والتي تدل في تفسيرها على الاستسقاء ,حيث ان اقدم صيغة لكلمة اكيتو جاءتنا بحدود 2400 ق. م وعلى شكل ( اّ – كي – تي ) . العلامة ( ا) تعني الماء ومجازا المطر , ( كي ) تعني الارض , و ( تي )فعل بمعنى يقرب , فيكون بذلك معنى الكلمة كاملا ( تقريب الماء الى الارض اي الاستسقاء) .
ان طقس الاستسقاء لم يبقى على حاله في العصور اللاحقة , بعد ان اصبح الري في جنوب العراق عماد الزراعة ,فهو قد اصبح اصبح ممارسة فنية تقليدية فقدت جذورها السحرية والدينية . في حين ظهر طقس الاكيتو بشكل مركب ومختلف تماما , وهكذا ظل من بقايا الاستسقاء النيوليتي (العصر الحجري الحديث ) ذلك الرقص الذي تمارسه النسوة او الرجال .
نلاحظ اليوم ان رقصات النساء ناثرات شعورهن في فنون الريف العراقي , وخصوصا رقصات الغجر ( الكاولية ) ورقصات النساء والرجال المتلازمي الايدي في فنون الريف والبادية العراقية , هي بقايا ذلك الطقس السحري والديني القديم .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *