ديسمبر 3, 2024
download (1)

الكاتب : عبد المنعم الاعسم

بانعقاد مؤتمر معارضي الدكتاتورية في دمشق انفتح الحراك السوري على معادلة جديدة يبدو معها النظام بمواجهة معارضتين، خارجية تتبنى مطالب حركة الاحتجاج بانهاء نظام الحزب الواحد، وداخلية، باصلاح النظام جذريا، ويعتقد، ولهذا الاعتقاد ما يبرره، بان سلطة الرئيس بشار الاسد ستلعب في المساحة التي تقع بين المعارضتين، لكن ذلك لا يعدو عن كونه محاولة لتصريف الازمة السياسية وتقطيع اوصالها، والعبور من فوق من جرى من احداث، ولنبدأ من آخرها:
حيث تداعيات حادث مقتل 120 شرطيا في بلدة جسر الشغور على الحدود مع تركيا ونزوح آلاف السكان الى الاراضي التركية هربا من حملة عقابية يشنها الجيش السوري إذ توزعت الروايات الى تفسيرين، الحكومي الذي اكد بان القتلى سقطوا على يد الجماعات المسلحة المعارضة، واوحى الى انها اسلامية متطرفة، والتفسير المعارض الذي قال ان افراد الشرطة الضحايا كانوا قد انضموا الى حركة الاحتجاج التي تشهدها البلاد ثم قتلوا على يد القوات الحكومية المغيرة مع عشرات المدنيين الذين تظاهروا مطالبين بالحريات.
وإذ يُعدّ هذا الاختلاف في الروايات امر طبيعي، في مثل هذه الظروف، لكن الموقف الرسمي التركي(من اعلى المستويات) الغاضب على دمشق والملوّح بالخيار العسكري اثار استغراب المراقبين، وطرح سؤالا وجيها ما اذا كان موقف انقرة يتحرك في استطراداته الانفعالية، من حادث حدودي، تشهده حدود الكثير من الدول التي تعيش حالات من الاضطراب، أم انه ينتمي الى تدبير دولي استراتيجي يستهدف الى دفع التطورات (الاحتجاجات. المجابهات..) في المنطقة الى مسار التغيير، اخذا بالاعتبار حقيقة ان تركيا، والى وقت قريب، كانت قريبة من سوريا في المواقف من السياسات التوسعية الاسرائلية، وقضايا الحرب على الارهاب، وكان بينهما ما يشبه التحالف غير المعلن.
التفسير المباشر لهذا التطور هو ان تركيا فككت والى الابد تلك الروابط الهشة مع سوريا وانها وجهت رسالة فصيحة الى دمشق (ربما بالنيابة عن دول الناتو) بان المراوحة في دائرة الردع، والوعود بطيئة التنفيذ، غير مقبولة، وان الفرصة لانقاذ النظام تضيق باضطراد.
ويشاء حادث جسر الشغور والموقف التركي ان يفتح السؤال عما يمكن لحكم الرئيس بشار الاسد ان يعود بسوريا الى عهد ما قبل عاصفة الاحتجاجات على مصراعيه، والسؤال الاكثر دويا: هل يمكن لسوريا الاسد، بعد كل ما حدث، وإذا ما نجحت في تجاوز الازمة ان تحافظ على وزنها في النظام الامني الاقليمي، وعلى الاوراق التي كانت تديرها في اكثر من ساحة عربية؟.
لا شك ان الجواب ليس صعبا ولا يعد من ضرب الخيال: لقد سقط احتمال العودة الى مربع ماقبل الاحداث، فقد قطعت سوريا المسافة المفترضة بين المخاض والولادة، وبات المشهد بانتظار الحلقة التي تنكسر، على يد الرئيس بشار نفسه، او على يد الجيش، او على يد تدخل خارجي قد يكون تركياً هذه المرة. اما شرعية الحكم فانها قيد التدقيق في الامم المتحدة لكن ليس من المرجح ان تحسم بالسرعة التي حسمت بها ورقة العقيد القذافي في الامم المتحدة وفي العالم كله.
في دمشق يتحدثون عن وجود مؤامرة دولية وراء حركة الاحتجاج هدفها ثني سوريا عن سياستها المناهضة لاسرائيل، والمعارضون يتحدثون عن مراكمة طويلة للغليان الشعبي ضد نظام الحزب الواحد والعائلة الواحدة انفجرت على هذا الحال من العنف، وفي المساحة بين التأويلين تنهض كومة من الاحتمالات ليس بينها معافاة الوضع السوري واستمرار نظام الحزب الواحد، على اية حال.

*
رسميا، اتهمت دمشق “جماعات دينية متطرفة” بتحريك “عواطف” الجمهور واستخدام السلاح في المواجهات مع القوات الحكومية، وأوحت اكثر من مرة، كما اوحى العقيد القذافي ورئيس اليمن علي عبدالله صالح قبل ذلك، ان تنظيم القاعدة يقف في قلب هذه الحركة، وغرض ذلك واضح للمراقب، وهو توجيه رسالة الى اوربا وامريكا بوجوب تخفيف الضغط على الحكم كي لا تقع البلاد تحت قبضة المشروع الارهابي العالمي، ورسالة اخرى الى الشرائح المحلية المدنية السورية التي تناهض التطرف الديني ومشروع القاعدة تحذرها من التعاطف مع المحتجين.
فهل لعبت القاعدة والجماعات الجهادية المسلحة دور المحرك والموجه للغليان الشعبي حقا؟.
الاجابة الموضوعية على هذا السؤال ينبغي ان تنطلق من البديهيات المعروفة، وفي المقدمة منها، حقيقة ان خلايا القاعدة، ايا كان نفوذها وحجمها، لابد ان تكون قد حضرت وشاركت، على نحو ما، في فعاليات الشارع، وانها حاولت حشر الحركة الشعبية في مشروعها الاجرامي الذي يعبر من فوق مفاعيل المطالب الشعبية ومفرداتها ذات الصلة بثنائية الخبز والحرية، وهو امر واضح في التفاصيل التي غطتها الاخبار اليومية على ان القاعدة والجماعات الجهادية المسلحة لا تؤمن بالتظاهر السلمي وحركة الاحتجاج كاسلوب لتحقيق الاهداف او التعبير عن الراي، كما ان شعارات الحرية والديمقراطية لا تدخل في منهجها الجهادي، بل انها تعد هذه الشعارات بمثابة دعوات مشبوهة، إن لم تكن مناهضة للدين، فيما تنأى بنفسها عن الاضرابات العمالية او ثورات الخبز او المطالب ذات الصلة بالعدالة والمساواة في المواطنة والخدمات وفرص العمل، وقد وردت عبارة لابن لادن اذاعها تنظيم القاعدة بعد مقتله بايام تشير الى الثورة التي عصفت في مصر وتونس، قائلا بالنص “ولم تكن هذه الثورة ثورة طعام وكساء وإنما ثورة عز وإباء”.
اما الدالة الميدانية فانها تنفي اية بصمة لتنظيم القاعدة في الاحداث السورية، ويستطيع أي متابع لمواقع المجاهدين على شبكة الانترنيت ان يتأكد من ان القاعدة تنظر بريبة الى الحركات الاحتجاجية في سوريا، بل انها تشكك في دوافعها وتعتبرها من صنع الدوائر “الصليبية والصهيونية” وليس في هذا غرابة اذا ما اعدنا الى الذاكرة حقيقة ان الساحة السورية كانت واحدة من اهم ساحات التعبئة والتدريب للجهاد المسلح في العراق، وان القاعدة تجنبت لسنوات طويلة ان توجه ضربات ضد المصالح السورية.
ثم لنتمعن في نصوص وملامح ثقافة الاشخاص الذي يعرضهم التلفزيون الحكومي كنادمين على انخراطهم في الهجمات ضد القوات الحكومية فسنحصل على بيان فصيح على انهم ابعد ما يكونوا عن “شخصية المجاهد” فيما تقدم لنا اللقطات الوثائقية الحية التي عرضتها الاقنية التلفزيونية العالمية “هوية” الضحايا المقبوض عليهم إذ يكبلهم الجنود ويرفسونهم بارجلهم قائلين: هاي منشان الحرية.. فهمني شو الحرية.. شو الحرية بدي أعرف؟!”.
وبخلاف تصريحات الساسة الغربيين والاتراك وتقديرات المراسلين الاجانب فان القراءة الموضوعية للاحوال السورية، الامنية والسياسية، وفي اللحظة التاريخية الحالية، تفيد ان البلاد لم تصل (كما هي احوال ليبيا واليمن وقبلهما تونس ومصر) الى نقطة اللاعودة، فان النظام العام وهياكل الدولة وانضباط الحزب الحاكم والقوات المسلحة لا تزال جميعا متماسكة في الحد المنظور من شروط التماسك، ولم تظهر، حتى الآن، ادارة موازية (او مهدِدة) لادارة الرئيس بشار الاسد.
ويمكن القول ان بعض تلك التصريحات والتقارير التي تروج لاندفاع الاوضاع الى اللاعودة ولسقوط شرعية النظام السوري كانت، من جانب، بمثابة تمنيات نائمة لحصول تغيير كامل للنظام، ومن جانب آخر هيأت الاذهان الى ما يسمى عهد ما بعد حكم الحزب الواحد. اما الدعوات الى الاصلاح السياسي فقد تراجعت (في الغرب وانقرة بخاصة) الى ادنى هامش لها، او كما صرح رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان بقوله ان الفرصة لاجراء اصلاحات في سوريا من قبل الرئيس الاسد باتت محدودة او مستحيلة، واعاد السبب في ذلك الى مسؤولين نافذين يحيطون به، ويستخدمون القوة المفرطة في الرد على حركة الاحتجاج الداخلية.
على سطح هذا الاستنتاج الواقعي تنتشر بعض الفجوات الموصولة، اولا، بكمّ الاحتقان الداخلي المفتوح الذي قد يؤدي الى انشقاقات غير متوقعة، وثانيا، بمؤشرات تدخل خارجي متعدد الاشكال تتزايد مظاهره قـُدماً، وثالثا، باستطراد سياسة الردع واستخدام القوة المفرطة ومناسيب سقوط الضحايا المخيفة، ورابعا، بتزايد الهوة بين جماعة الحكم والمعارضة الى مشارف القطيعة. وكل هذه المعطيات هي مكونات عناصر المشهد لهذا اليوم الذي لا احد يقدر الى أي مدى سيستمر وفي أي مجرى سيمضي.
وإذا ما قررنا ان ثمة امكانيات (ومفاتيح) حقيقية متوفرة، الآن، لانهاء دوامة العنف المتفاقمة، او تصريفها، فانه يتطلب النظر (او افتراض) الخطوة الاولى النوعية التي يمكن ان تساعد على ايقاف الصراع او ترشيده عن نقطة البحث في الخطوات الاخرى، مع تقرير ان اعادة سوريا الى موقعها وشكل حكمها وادارتها لما قبل اندلاع حركات الاحتجاج في آذار الماضي لا يعدو عن كونه وهما او فرضية ضعيفة في التوصيف الاكاديمي.
اما الخطوة المطلوبة، العملية، الاستباقية، التاريخية، الانقاذية، فتتمثل في إقدام الجماعة الحاكمة على الوقف الفوري للحملة العسكرية العقابية ضد المحتجين وتصفية آثارها والاعتراف بحركة الاحتجاج بوصفها حقيقة شعبية، ثم الدخول مع ممثلي المحتجين ودعاة التغيير في حوار منهجي متكافئ الحقوق ومسبوق باستعداد الرئاسة والحزب الحاكم على انهاء احتكار السلطة والانتقال الى حكم تعددي يقوم على احترام حاجات الخبز والحرية والسيادة.
الشئ اللافت بان المعارضتين الخارجية والداخلية تتفقان على انه لا مصداقية للحديث عن حوار بين النظام والحركة الشعبية الاحتجاجية قبل انتخاذ إجراءات عاجلة لجهة وقف الخيار الامني واطلاق جميع المعتقلين وتفكيك اساس نظام الحزب الواحد باسقاط مواده الدستورية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *