الكاتب : عبد المنعم الاعسم
إنتحرت التجربة الايطالية لانتاج المافيات النموذجية الضاربة في نقطة السياسة، فلم تتمكن من بناء اقنية حصينة وضاربة في القطاع السياسي، وكان عليها بحسب المدعي العام المسؤول عن مكافحة المافيا بييرو جراسو، ان تنأى عن الساحة السياسية وتكتفي بنجاحها في تخويف الساسة والقضاة المناهضين لها، وابتزازهم، وحمل البعض منهم على التعاون أو التستر عليها او الصمت حيال انشطتها، ولا مجال هنا للتعرض الى علاقة رئيس الوزراء الليبرالي اليميني برلوسكوني بالمافيا الايطالية وقد نعود له في معالجة مستقلة، ولا مجال، ايضا، لعرض وتحليل وتعريف هوية وانماط المافيا إذ نكتفي بالاشارة الى انها جماعة سرية من اصحاب النفوذ والقوة (لها زعيم وهياكل وايد تنفيذية قذرة) تدير عمليات سطو وتهريب وتجارة مخدرات وغسيل اموال وابتزاز واختراق للقانون وتصبح، في النهاية، بمثابة دولة داخل دولة، لها ضوابط وسجون ومحاكم ومعاهدات، وهي، الى ذلك ليست بعيدة عن السياسة وتبدو احيانا، وفي دول عديدة تعيش حالة اضطراب او حروبا اهلية(امريكا اللاتينية. الشرق الاوسط. افريقيا)جزءا عضويا من المعادلة السياسية.
في العراق، لم تكن المافيات معروفة في الخمسين سنة الاولى من عمر الدولة، وقد تكونت التشكيلات الاولى لها، منتصف السبعينات، في قلب النخبة البعثية الحاكمة، وبحمايتها، وكانت العشرات من اعمال التصفية الغامضة للاشخاص (اخفتها السلطة او امتنعت عن التحقيق فيها) تشير الى مافيات واسماء ذات سطوات مخيفة، والى اموال هائلة تتحرك من قنوات النظام الحاكم او من شبكة نفوذه، ويحتفظ المواطنون والمتابعون وبعض القريبين من الحلقة الصغيرة التي كانت تمسك بالحكم بوقائع (نشر القليل منها) عن نشاط هذه الجماعات، وذكرت بعض التقارير ومحاضر التحقيق لدى دول المنطقة في انشطة تهريب وغسيل اموال ان بعض المافيات ترتبط مباشرة بصدام حسين، او بابنه عدي.
ومع سقوط النظام تفككت وتشظت الكثير من المافيات، وكانت ستنكشف على نطاق واسع وعن اسرار مدوية (في العهد الجديد) لو ان الجماعة المتنفذة واحزابها والادارة الامريكية فتحت هذا الملف وحققت فيه ولاحقت ابطاله، غير انه لاسباب عديدة، ربما بعضها يعود الى انخراط بعض رموز المافيات القديمة في الترتيبات السياسية والادارية الجديدة، جرى تعليق النظر في هذا الملف ودسه في سلسلة من الاعتبارات والتبريرات وربما الصفقات إذا شئنا الدقة.
في نهاية الامر، اعادت مافيات النظام السابق تشكيل وتنظيم هياكلها واذرعها، ووجدت في بعض العواصم العربية مراكز انشطة وتسهيلات وبنوك وخطوط اتصال وحركة، وتسرب الى الاعلام عدد قليل من حوادث وتصفيات سجلت على مافيات سرية مرتبطة باسماء تدير مصالح وامبراطوريات مالية متحدرة من عهد الدكتاتورية.
بموازاة ذلك تكونت بعد سقوط النظام، وبسرعة شيطانية، مافيات جديدة اكثر شراهة ودموية وانتعشت في ثنايا السباق المحموم على الثروة والسطوة، وذلك بالافادة (اولا) من فساد طبقة الموظفين الكبار الجدد وبعض رموز الحالة السياسية النافذة و(ثانيا) من خبرة مافيات العهد السابق وخدمة بعضهم .
وقد وجدت المافيات الجديدة اولى الميادين المناسبة والمغرية لنشاطها في مجالات تهريب النفط وغسيل الاموال والمتاجرة بالمخدرات فضلا عن تنفيذ اعمال الاختطاف لرجال اعمال وساسة وعاملين اجانب في العراق، وفضلا ايضا عن الاغتيالات السياسية، مدفوعة الاجر، لصالح جهات محلية وخارجية مختلفة.
ومنذ البداية، كان واضحا ان الفوضى وانتشار السلاح والمليشيات وانعدام الامن والاستقطاب الطائفي واجواء الهلع والشوفينية والكراهية وموجات النزوح والخوف هي من لوازم وادوات وبيئة المافيا الجديدة، وقد عملت وكالاتها ومجساتها على تكريس هذا الوضع باشكال مختلفة وقذرة، في حين قدمت عصابات الجريمة المنظمة التي تشكلت باعداد كبيرة في بغداد والمدن الكبرى (من خلال اعمال السطو والاختطاف)خدمة تنفيذية كبيرة لهذه المافيات، وتقول احدى التقارير الدولية بان المحققين العراقيين توصلوا الى خيوط للانشطة الاجرامية تديرها مافيات تحصنت في حمايات سياسية، أو برعاية مخابرات دول اخرى، وان بعضها يتحرك عبر الحدود في نطاق تسهيلات اسطورية والبعض الاخر صار يستخدم وسائل واقنية الدولة في انشطته.
ومما له مغزى هنا ان تتولى الجماعات الارهابية المسلحة التي تزعم انها تقاوم الاحتلال تكوين مافيات اجرامية ضاربة، نصفها يتحرك في العلن ويدير مصالح وانشطة تجارية وواجهات سياسية ومكاتب علاقات من مواقع محصنة، والنصف الاخر يقوم بالاعمال التنفيذية ذات الصلة بالتمويل والاتصالات والتهديدات والاختطافات، وثمة ثلاثة حوادث كشفت نشاطا مافيويا خطيرا مبكرا موصولا بكل من مشعان الجبوري وحارث الضاري ومحمد الدايني، الامر الذي دوّن في ملفات وتحقيقات وتقارير كثيرة.
لكن اخطر المافيات الجديدة هي التي تنشط وتستقوي تحت الحماية السياسية التي يتيحها الصراع على السلطة، إذ تحظى هذه الجماعات بالتشجيع او التواطؤ او الصمت فيما تقوم بدورها بمدّ ماكنة الصراع بالزيت المناسب، ويمكن لمحللي الهجمات والاختراقات الامنية وللنشاطات المدنية المسلحة في الكثير من المدن واحياء بغداد ان يضع يده على مؤشرات لانشطة مافيوية خطيرة(هياكل واسماء) هي نفسها تقف وراء الكثير من الاختراقات الامنية ومذابح المدنيين فضلا عن انها تقف وراء افظع عناوين الفساد المالي والاداري في البلاد.
على ان المواطنين والكثير من متابعي الاوضاع السياسية والامنية، فضلا عن الضحايا وذويهم، يعرفون وقائع واسماء كثيرة، بعضها يشار له بالبنان، موصولة بمافيات او بانشطة تدخل في نطاق جرائم مافيوية، وثمة الكثير منهم على استعداد للتعاون مع محققين للادلاء بمعلوماتهم، لكن، حين يـُفتح هذا الملف على مصراعيه، وبايد بيضاء حقا، وشجاعة حقا، ولا تخشى في الحق لومة لائم.
*
“بين يديّ أخبار ترفع الرأس وأخرى ترفع الضغط” .
محمد الماغوط