صباح البغدادي
لا يزال أحمد سعيد يتربع على عرش الشهرة الإذاعية كأحد أبرز المذيعين العرب حتى يومنا هذا، فلم ينافسه أحد في هذا المضمار. ساعدته قوة الإذاعة، التي كانت سيدة الإعلام في زمن ما قبل التلفزيون، على بث عباراته النارية التي ألهبت الجماهير. من أشهرها مقولة أحمد الشقيري، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الأول، التي أطلقها من غزة قبل حزيران 1967: “سنلقيهم في البحر”. ثم جاءت عبارة سعيد الإذاعية الأيقونية خلال الحرب، “هنيئًا لك يا سمك”، وهو يتخيل الإسرائيليين يفرون عبر البحر، تاركين فلسطين خلفهم. كلمات رنانة، لكنها، للأسف، ظلت أسيرة الأثير، بعيدة عن واقع الأرض.
يا لها من مسرحية مكررة، يتغير فيها الممثلون لكن النص يبقى رديئًا! في 1967، وقف أحمد سعيد خلف ميكروفون “صوت العرب”، يصدح ببيانات انتصارات وهمية كأنه قائد أوركسترا يعزف سيمفونية النصر المزعوم. عشرات الطائرات الإسرائيلية تتساقط كالذباب، والجيش المصري يحقق انتصارات أسطورية… حتى استيقظ الجميع على كابوس الهزيمة. الحقيقة، كما اتضح، كانت ترقد تحت أنقاض المطارات المدمرة، لا في بيانات سعيد الرنانة. لكن يبدو أن التاريخ، ذلك المعلم الصلب، لا يجد من يستمع إليه. فها نحن اليوم، في 2025، نشهد إعادة عرض نفس الخدعة البالية، لكن هذه المرة من إخراج إيراني، وبطولة قائد مقر الدفاع الجوي “خاتم الأنبياء”، الذي أعلن بكل وقاحة عن إسقاط 10 طائرات معادية في ساعة واحدة. عشرة؟ لماذا لا مئة؟ أو ألف؟ لماذا التقتير في الكذب؟
ولأن الخيال الإعلامي الإيراني لا حدود له، أعلنت طهران (1) ، في يومين فقط، عن إسقاط 4 طائرات “إف-35″، تلك المقاتلات التي تكلف مئات الملايين وتُعد درة التكنولوجيا العسكرية. أما المكافأة؟ “عدد من الطائرات المسيرة”، كالبهارات التي تُضاف إلى طبق بائس ليبدو أكثر شهية. لكن، يا سادة، أين الحطام؟ أين الصور؟ أين دليل واحد يثبت هذا العرض الهوليوودي؟ لا شيء. فقط كلام فارغ يُلقى كالقنابل الدخانية لتغطية عورة الهزيمة. إنها أكاذيب مفضوحة، مصممة بدقة لتلميع صورة نظام يترنح، ولإلهاء الجبهة الداخلية الإيرانية وفصائلها الولائية في العراق، التي بدأت تشعر بأن الأمل المزعوم ليس سوى سراب.
هل يظن هؤلاء أن النصر يُصنع ببيانات صحفية وأرقام مختلقة؟ هل يعتقدون أن الشعوب ستصفق لهم وهم يرقصون على جثة الحقيقة؟ النصر، يا أيها الكذابون المبدعون، لا يُكتب بحبر المذيعين، ولا يُرسم بتغريدات التويتر، ولا يُزيَّن بتصريحات رنانة من غرف مكيفة. النصر يُصنع في الميدان، حيث الدم والنار، وحيث الحقيقة لا ترحم. لكن بدلًا من مواجهتها، يختار هؤلاء الهروب إلى عالم الوهم، حيث الطائرات تسقط كالفشار والانتصارات تُشترى بكلمات جوفاء.
إن هذا التكرار المقيت لمسرحية 1967 ليس مجرد فشل إعلامي، بل إهانة لعقول البشر. إنه دليل على أن بعض الأنظمة لا تزال تعتقد أن الكذبة الكبيرة كفيلة بإنقاذها من الغرق. لكن، يا سادة، الحقيقة مثل الماء: مهما حاولت تغطيتها، ستتسرب، ستفضح، وستغرق كل من راهن على الزيف. فإلى متى ستستمر هذه المهزلة؟ إلى متى سنظل نشاهد نفس الفيلم الرديء، مع ممثلين جدد يرددون نفس النص الفاشل؟ فليصمت المذيعون، ولتتكلم الأرض. ففي الميدان فقط، يُولد النصر، أو تُدفن الأكاذيب.
(1) أعلن قائد مقر الدفاع الجوي الإيراني عن إسقاط 10 طائرات معادية خلال الساعة الماضية.
وأفادت وكالة تسنيم الدولية للأنباء بأن العميد أمير علي رضا صباحي فرد، قائد مقر الدفاع الجوي “خاتم الأنبياء (ص)”، صرّح بأن منظومات الدفاع الجوي التابعة للجمهورية الإسلامية الإيرانية تمكّنت خلال الساعة الأخيرة من إسقاط 10 طائرات معادية تابعة للكيان الصهيوني في مناطق متفرقة من البلاد.
ولم تحدد مصادر تسنيم طبيعة هذه الطائرات.
وأعلنت إيران خلال اليومين الماضيين عن إسقاط 4 طائرات اف 35 إلى جانب عدد من الطائرات المسيرة.