الهارب إلى القفص

رياض سعد

الهارب إلى القفص

أنا لا أعيش، بل أؤجِّل الحياة.

لا أموت، بل أرتب موعدًا مؤجلًا مع النهاية.

محكومٌ بلا جريمة، وسجينٌ بلا قيد.

لكنني… لست كالسجناء الآخرين الذين تنتعش أرواحهم بشعاعٍ خجول من الشمس،أو يبتسمون لفتنة القمر حين يزحف من شقوق الجدار.

أنا سجينٌ بلا نافذة، وبلا أملٍ في الضوء… ؛ لا لأن السجان منعه … ؛ بل لأنني أنا… ؛ من أغلق النافذة، وألقى المفتاح في بئرٍ من الذكريات المهترئة.

هربتُ من سجن العالم… إلى سجن الذات …

هربتُ من الزحام، من الألوان المتكررة، من الأصوات المرتفعة التي تقول كل شيء ولا تعني شيئًا…

هربتُ من الحرية التي تسير على عكازين من الجهل …

ومن الديمقراطية التي ترتدي قناع الطاغية…

هربتُ من “الكلّ” إلى “العدم”، ومن الزيف إلى الصمت…

في العالم “الخارجي”، لا اختلاف يُحتمل، لا لون يُعترف به سوى الأغبر ،

لا رأي يُسمع، لا حلم يُصدّق، لا عشقٍ بلا تصنيفٍ حزبي أو طائفي أو طبقي…

سئمتُ اللون الواحد،

والسقف الواحد،

والدين الواحد،

والقائد الواحد،

والخبر الواحد في كل نشرات الأخبار!

فاخترتُ “السجن” الذي لا يدّعي شيئًا … ؛ والذي لا يعد بشيء… ؛ والذي لا يكذب… ؛ لأنه ببساطة، لا يتكلم.

سألت نفسي ذات ليلة، بعد أن أُنهكت من صد الهجمات، وتفنيد التهم والافتراءات ، ومقاومة الشبهات والاغراءات التي تُزرع في طريقي كما تُزرع الألغام:

هل أتقنتُ فن الحياة؟

ابتسمت مرارتي وأجابت:

اتقان فن الحياة يشبه اقتناء مشطٍ فاخر…؛ نحصل عليه بعد أن يتساقط شعر الرأس!

فالحياة  لا تُعطي أدوات الفهم  الا بعد أن يُستهلك الجسد، ولا تمنح الحكمة  الا حين لا يعود القلب قادرًا على الحُب، ولا تشرح لك قوانين اللعبة  الا بعد أن تُستبعَد من المباراة…

أنا الآن في قفصي… ؛ لكنه قفصٌ شفاف … ؛ أراه من الداخل بوضوح، وأرى خارجه بلا حسرة.

الناس يمرّون … ؛ يحملون وجوهًا واحدة بأقنعة متعددة … ؛ يمضون إلى أعمالهم، حروبهم، معاركهم الصغيرة والكبيرة … ؛ وأنا أراقبهم… ؛كأنني لم أكن واحدًا منهم يومًا…!

في هذا السجن … ؛ لا أريد أن أهرب… ؛ لا أريد أن أشفى من وحدتي… ؛ فأنا لم أعد أثق بالحياة خارج القضبان…

ربما كنتُ أبحث عن خلاصٍ لا يشبه حريتهم … ،وعن نجاةٍ لا تمر عبر طرقهم المختصرة والمكررة…

ربما… كنتُ أهرب مني إليّ…