اعطاء الصدقات (الفقراء، المساكين، العاملين عليها، المؤلفة قلوبهم، في الرقاب، الغارمين، الجهاد، ابن السبيل)

الكاتب : د. فاضل حسن شريف
—————————————
جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى عن المؤلفة “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” ﴿التوبة 60﴾ بيان لموارد تصرف إليها الصدقات الواجبة وهي الزكوات بدليل قوله في آخر الآية: “فريضة من الله” ﴿التوبة 60﴾ وهي ثمانية وارد على ظاهر ما يعطيه سياق الآية ولازمه أن يكون الفقير والمسكين موردين أحدهما غير الآخر. وقد اختلفوا في الفقير والمسكين أنهما صنف واحد أو صنفان، ثم على الثاني في معناهما على أقوال كثيرة لا ينتهي أكثرها إلى حجة بينة، والذي يعطيه ظاهر لفظهما أن الفقير هو الذي اتصف بالعدم وفقدان ما يرفع حوائجه الحيوية من المال قبال الغني الذي اتصف بالغنى وهو الجدة واليسار. وأما المسكين فهو الذي حلت به المسكنة والذلة مضافة إلى فقدان المال وذلك إنما يكون بأن يصل فقره إلى حد يستذله بذلك كمن لا يجد بدا من أن يبذل ماء وجهه ويسأل كل كريم ولئيم من شدة الفقر وكالأعمى والأعرج فالمسكين أسوأ حالا من الفقير. والفقير والمسكين وإن كانا بحسب النسبة أعم وأخص فكل مسكين من جهة الحاجة المالية فقير ولا عكس غير أن العرف يراهما صنفين متقابلين لمكان مغايرة الوصفين في نفسهما فلا يرد أن ذكر الفقير على هذا المعنى مغن عن ذكر المسكين لمكان أعميته وذلك أن المسكنة هي وصف الذلة كالزمانة والعرج والعمى وإن كان بعض مصاديقه نهاية الذلة من جهة فقد المال. وأما العاملون عليها أي على الصدقات فهم الساعون لجمع الزكوات وجباتها. وأما المؤلفة قلوبهم فهم الذين يؤلف قلوبهم بإعطاء سهم من الزكاة ليسلموا أو يدفع بهم العدو أو يستعان بهم على حوائج الدين. وأما قوله: “وفي الرقاب” فهو متعلق بمقدر والتقدير: والمصرف في الرقاب أي في فكها كما في المكاتب الذي لا يقدر على تأدية ما شرطه لمولاه على نفسه لعتقه أو الرق الذي كان في شدة.

وعن الغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل يقول العلامة السيد الطباطبائي: وقوله: “والغارمين” أي وللصرف في الغارمين الذين ركبتهم الديون فيقضى ديونهم بسهم من الزكاة وقوله: “وفي سبيل الله” ﴿التوبة 60﴾ أي وللصرف في سبيل الله، وهو كل عمل عام يعود عائدته إلى الإسلام والمسلمين وتحفظ به مصلحة الدين ومن أظهر مصاديقه الجهاد في سبيل الله، ويلحق به سائر الأعمال التي تعم نفعه وتشمل فائدته كإصلاح الطرق وبناء القناطر ونظائر ذلك وقوله: “وابن السبيل” ﴿التوبة 60﴾ أي وللصرف في ابن السبيل وهو المنقطع عن وطنه الفاقد لما يعيش به وإن كان غنيا ذا يسار في بلده فيرفع حاجته بسهم من الزكاة وقد اختلف سياق العد فيما ذكر في الآية من الأصناف الثمانية فذكرت الأربعة الأول باللام: “للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم” ﴿التوبة 60﴾ ثم غير السياق في الأربعة الباقية فقيل: “وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل” ﴿التوبة 60﴾ فإن ظاهر السياق الخاص بهذه الأربعة أن التقدير: وفي الرقاب وفي الغارمين وفي سبيل الله وفي ابن السبيل أما الأربعة الأول: “للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم” ﴿التوبة 60﴾ فاللام فيها للملك بمعنى الاختصاص في التصرف فإن الآية بحسب السياق كالجواب عن المنافقين الذين كانوا يطمعون في الصدقات وهم غير مستحقين لها وكانوا يلمزون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حرمانهم منها فأجيبوا بالآية أن للصدقات مواضع خاصة تصرف فيها ولا تتعداها، والآية ليست بظاهرة في أزيد من هذا المقدار من الاختصاص وأما كون ملكهم للصدقات هو الملك بمعناه المعروف فقها؟ وكذا حقيقة هذا الملك مع كون المالكين أصنافا بعناوينهم الصنفية لا ذوات شخصية؟ ونسبة سهم كل صنف إلى بقية السهام؟ فإنما هي مسائل فقهية خارجة عن غرضنا، وقد اختلفت أقوال الفقهاء فيها اختلافا شديدا فليرجع إلى الفقه وأما الأربعة الباقية: “وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل” ﴿التوبة 60﴾ فقد قيل في تغيير السياق فيها وفي تأخيرها عن الأربعة الأول وجوه: منها: أن الترتيب لبيان الأحق فالأحق من الأصناف، فأحق الأصناف بها الفقراء ثم المساكين وهكذا على الترتيب، ولكون الأربعة الأخيرة بحسب ترتيب الأحقية واقعة في المراتب الأربع الأخيرة وضع كل في موضعه الخاص، ولو لا هذا الترتيب لكان الأنسب أن يذكر الأصناف ثم تذكر موارد المصالح فيقال: للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وابن السبيل ثم يقال: وفي الرقاب وسبيل الله.

وعن ترتيب الصدقات جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: والحق أن دلالة الترتيب بما فيه من التقديم والتأخير على أهمية الملاك وقوة المصلحة في أجزاء الترتيب لا ريب فيه فإن كان مراده بالأحق فالأحق الأهم ملاكا فالأهم فهو، ولو كان المراد التقدم والتأخر من حيث الإعطاء والصرف وما يشبه ذلك فلا دلالة من جهة اللفظ عليه البتة كما لا يخفى والذي أيده به من الوجه لا جدوى فيه ومنها: أن العدول عن اللام في الأربعة الأخيرة إلى ﴿في﴾ للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره لأن ﴿في﴾ للوعاء فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصبا، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق والأسر، وفي فك الغارمين من الغرم والتخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال وتكرير ﴿في﴾ في قوله: “وفي سبيل الله وابن السبيل” ﴿التوبة 60﴾ فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين كذا ذكره في الكشاف وفيه: أنه معارض بكون الأربعة الأول مدخولة للام الملك فإن المملوك أشد لزوما واتصالا بالنسبة إلى مالكه من المظروف بالنسبة إلى ظرفه، وهو ظاهر ومنها: أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم، وإنما يأخذونه ملكا فكان دخول اللام لائقا بهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن في مصالح تتعلق بهم فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم، وإنما هم محال لهذا الصرف والمصلحة المتعلقة به، وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم، وأما سبيل الله فواضح ذلك فيه، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكنه على القريب منه أقرب وهذا الوجه لا يخلو عن وجه غير أن إجراءه في ابن السبيل لا يخلو عن تكلف، وما ذكر من دخوله في سبيل الله هو وجه مشترك بينه وبين غيره ولو قال قائل بكون الغارمين وابن السبيل معطوفين على المجرور باللام ثم ذكر الوجه الأول بالمعنى الذي ذكرناه وجها للترتيب والوجه الأخير وجها لاختصاص الرقاب وسبيل الله بدخول ﴿في﴾ لم يكن بعيدا عن الصواب وقوله في ذيل الآية: “فريضة من الله والله عليم حكيم” ﴿التوبة 60﴾ إشارة إلى كون الزكاة فريضة واجبة مشرعة على العلم والحكمة لا تقبل تغيير المغير، ولا يبعد أن يتعلق الفرض بتقسمها إلى الأصناف الثمانية كما ربما يؤيده السياق فإن الغرض في الآية إنما تعلق ببيان مصارف الصدقات لا بفرض أصلها فالأنسب أن يكون قوله: “فريضة من الله” ﴿التوبة 60﴾ إشارة إلى أن تقسمها إلى الأصناف الثمانية أمر مفروض من الله لا يتعدى عنه على خلاف ما كان يطمع فيه المنافقون في لمزهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن هنا يظهر أن الآية لا تخلو عن إشعار بكون الأصناف الثمانية على سهمها من غير اختصاص بزمان دون زمان خلافا لما ذكره بعضهم: أن المؤلفة قلوبهم كانوا جماعة من الأشراف في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف قلوبهم بإعطاء سهم من الصدقات إياهم، وأما بعده صلى الله عليه وآله وسلم فقد ظهر الإسلام على غيره، وارتفعت الحاجة إلى هذا النوع من التأليفات، وهو وجه فاسد وارتفاع الحاجة ممنوع