بقلم: الأستاذ حسين شكران الأكوش العقيلي – كاتب ومؤلف
التقاعد ليس مجرد محطة إدارية في حياة الموظف، بل هو انتقال وجودي يضع الإنسان أمام أسئلة جديدة عن ذاته ودوره ومكانته في المجتمع. فبعد سنوات طويلة من الخدمة، يجد المتقاعد نفسه وقد طُوي ملفه الرسمي، لكن لم تُطوَ معه همومه ولا خبراته ولا تطلعاته. إن هذه المرحلة التي يُفترض أن تكون مساحة للراحة والطمأنينة، تكشف في الواقع عن أبعاد اقتصادية واجتماعية ونفسية معقدة، تحتاج إلى قراءة نقدية جادة تتجاوز النظرة السطحية.
من الناحية الاقتصادية، يواجه المتقاعد أول صدمة حين يتراجع دخله بشكل ملحوظ مقارنة بما كان يتقاضاه أثناء الخدمة. الراتب التقاعدي الذي يُفترض أن يكون ضمانًا للاستقرار، يتحول في كثير من الأحيان إلى عبء لا يوازي ارتفاع الأسعار ولا ينسجم مع متطلبات الحياة اليومية. هذا التراجع يضع المتقاعد أمام تحديات في تلبية احتياجاته الأساسية، ويجعله في مواجهة مباشرة مع شعور بالغبن، خاصة حين يكتشف أن التشريعات لا تُعامل جميع الفئات بالعدالة نفسها، وأن هناك من يتمتع بامتيازات لا تُتاح لغيره. وهكذا يصبح التقاعد مرآة تكشف عن اختلالات النظام الاقتصادي والاجتماعي في آن واحد.
أما من الناحية الاجتماعية، فإن فقدان الدور الوظيفي يترك أثرًا عميقًا على الفرد. فالمتقاعد الذي كان جزءًا من دائرة الفعل اليومي، يجد نفسه فجأة خارجها، وكأن المجتمع قد قرر أن دوره انتهى. هذا الانسحاب يفتح الباب أمام عزلة اجتماعية، حيث تتراجع شبكة العلاقات التي كانت مرتبطة بالعمل، ويشعر المتقاعد أنه فقد جزءًا من هويته. ومع ذلك، فإن الحقيقة التي يغفلها الكثيرون هي أن المتقاعد يحمل خبرة تراكمية يمكن أن تكون رافعة للتنمية، لو أُحسن استثمارها. لكن المجتمع، في كثير من الأحيان، يكتفي بالنظر إليه كـ “منتهي الدور”، في حين أن دوره الحقيقي يبدأ من جديد إذا ما أُعيد دمجه في مشاريع جماعية تستفيد من خبراته.
البعد النفسي لا يقل خطورة عن البعدين الاقتصادي والاجتماعي. فالتقاعد يفرض على الإنسان إعادة تعريف ذاته بعيدًا عن الوظيفة، ويضعه أمام فراغ قد يتحول إلى عبء نفسي إذا لم يجد ما يملأه. كثير من المتقاعدين يعيشون حالة من القلق أو الإحباط، لأنهم يشعرون أن المجتمع لم يعد بحاجة إليهم. هذه النظرة السلبية تُضعف ثقتهم بأنفسهم، وتُحرمهم من فرصة تحويل خبراتهم إلى طاقة إيجابية. إن التقاعد، في جوهره، ليس نهاية الدور، بل بداية مرحلة جديدة تحتاج إلى وعي اجتماعي ونفسي يفتح أمام المتقاعد أبوابًا جديدة للاندماج والإبداع.
إن قراءة حال المتقاعد بعد الإحالة تكشف عن مفارقة مؤلمة: الدولة التي استفادت من جهده لعقود، تُقصيه فجأة إلى هامش الحياة، والمجتمع الذي كان يراه فاعلًا، ينظر إليه اليوم كعبء. هذه المفارقة تستدعي إعادة التفكير في فلسفة التقاعد نفسها، بحيث لا يكون مجرد نظام مالي محدود، بل مشروعًا اجتماعيًا يضمن للمتقاعد مكانة تليق بما قدمه، ويمنحه فرصة للاستمرار في العطاء بطرق جديدة. فالمتقاعد ليس عبئًا، بل هو ذاكرة حيّة وخبرة متراكمة، وإذا ما أُعيد الاعتبار له، يمكن أن يتحول إلى عنصر فاعل في بناء المجتمع.
التقاعد إذن ليس راحة مطلقة ولا نهاية الدور، بل هو اختبار حقيقي لمدى قدرة الدولة والمجتمع على رد الجميل لمن أفنى عمره في الخدمة. إن التعامل مع المتقاعد بكرامة وعدالة ليس مجرد واجب أخلاقي، بل هو استثمار في خبرة إنسانية يمكن أن تكون أساسًا لنهضة اجتماعية واقتصادية. وما لم يُعاد النظر في هذه المرحلة بما يليق بها، ستظل الراحة ظاهرية، فيما الأعباء الخفية تزداد ثقلًا على كاهل من يستحق أن يُكرَّم لا أن يُهمَّش.