حسن العكيلي
بالرغم من مرور ربع قرن من الزمن لن يغير سلمان مهنته التي برع فيها وهي تهديم البيوت الايلة الى السقوط وبعد ان انهى يوما شاقا يعج بالتعب والارهاق عاد الى بيته يسحب جسدا منهكا اتعبه ثقل المطرقة.ووجها غيرت ملامحه ذرات غبار التراب.وبعد ان استحم وتناول طعامة اتكأ على حائط الغرفة المتاكلة الجدران بسبب الاهمال المتعمد من قبل صاحب البيت الذي لايعرف غير جمع الاموال وخزنها في صندقجته. نام وانفصل عن العالم وراح يشخر بصوت عال سمعه الجميع. وبعد ان تاكد الاولاد من نوم ابيهم اسرعوا باخبار امهم بما حدث- فعندما راته زوجته وهو في مثل تلك الحالة المثيرة للشفقة هيئت له سريرا وسحبته من يده ليرتمي فوق فراشه كالميت.
وماهي سوى لحضات حتى راح ناعور الاحلام يرفعه الى الاعلى وينزله الى الاسفل فوجد نفسه يقف امام جدار غرفة الضيوف وينظر بتمعن الى ذكريات كتبت قبل خمسة عقود من الزمن اختفت اغلب حروفها وذبلت ملامح اشكالها حتى صارت اشبه بأمكنة خربة تعود للقرون الاولى
وبعد ان شعر بالتعب بسبب قراءاته لتلك الذكريات التي اعادته الى زمن اسدل الستار عليه وصارت ايامه في طي النسيان خرج ليرى جيرانه في الزقاق واصدقاءه في المحلة فوجدهم كما هم – ولفت انتباهه منظر السيارات القديمة التي كانت تسير في الشوارع . الربلات . عربات بيع النفط الاسود التي تجرها الخيول. المقاهي الممتلئة برجال يرتدون الجراويات – والشباب الذين يلبسون بنطلونات الجارلس الضيقة – والقمصان ام المسطرة – السينمات التي تتسابق في عرض اخر ما تم انتاجه من الافلام المصرية والاجنبية – الدكاكين وما تعرضه من سيكاير بغداد والجمهورية والروثمان- الدرابين الغير مبلطة والتي لايهدأ ترابها المتصاعد الى عنان السماء حتى منتصف الليل..
حاول ان يمد يده الى جيبه ليعرف ماعنده – فأطمئن قلبه بعدما سمع خرخشة الدراهم واجزائها تملأ اجواء الجيب المطمئن البال
كان سعيدا بعودته الى تلك الايام – وخاصة رؤيته لاغلب الناس الذي يعزهم وهم في شبابهم -وبعد ان قضى معهم وقتا طيبا تمنى ان لايعود الى زمنه الحالي لان اغلبهم قضى نحبه ومنهم من تغيرت ملامحه واصبح التعرف عليهم من المستحيلات – حتى بيوتهم البسيطة تغيرت تصاميمها واشكالها وتحولت الى عمارات متعددة الطوابق
قبل ان ينام سلمان سحب من جيب بنطاله اجرته التي حصل عليها وهي مبلغ خمسة وعشرين الف دينار مخافة ان يتم غسلها مع البطلون المعفر بالتراب ووضعها داخل محفظته
فاختلطت السنين مع بعضها في ذاكرته المشوشة. ككومة من الخرز المتعدد الالوان والاشكال فلم يعد يعرف في اي سنة يعيش وكم من الخطوات تراجع الى الخلف- بعد ان حملته زوبعة ذلك الحلم البهيج الى الاعالي الموغلة في الفضاء السحيق وانزلته مابين سطور سجلات ذلك الزمن الذي لايعرف شكل الغلاء او الازدحام او الضوضاء .
هبط بمظلته بسلام على مقربة من زقاقه الذي عاش فيه مدة طويلة وبيده مفاتيح التغيير والانتقال الى العوالم التي كانت من المستحيل الوصول اليها والعيش داخل اقبيتها ومنعرجاتها – كيف لا وقد عاد الى زمنه الذي طويت ايامه وتغيرت ملامحه وحفظت في سراديب واقبية الارشيفات المتاكلة الحيطان
عاد الى زمن كانت فيه البيوت المعروضة للبيع لايزيد سعرها عن ثلاثمائة دينار فقط ..هبط وعلى حين وفي جيبه خمسة وعشرون الف دينار.لاشك انه سيصاب بجنون العظمة او باضطراب سلوكي سيعيث الفساد باخلاقه التي تربى عليها في طفولته ويحوله الى انسان لايعرف معنى الرحمة
طلب من جيرانه ان يرافقه الى احد مكاتب بيع الدور السكنية ليساله عن ماعنده من بيوت معروضة للبيع فناوله رزمة من سندات البيوت المعروضة للبيع وابلغه ان اغلى ماعندي من بيوت سعره خمسماة دينار واقلها بثلاثمائة دينار
عندما سمع سلمان بقيمة البيوت اتكا جيدا على كرسيه ورفع فخذه الايمن ووضعه فوق فخذه الايسر وقال لصاحب المكتب ساشتري عشرة بيوت دفعة واحدة وساكلفك بتمشية معاملاتها داخل الدوائر المعنية ولن أمر عليك الا بعد اخباري باكتمالها.. وذلك لانشغالاتي الكثيرة
عاش سلمان اجمل ايامه وهو يتنقل كالفراشات مابين بيوته الواسعة وبساتينه المثقلة بالعناقيد التي اتخذت من الشط مستقرا لها..وهو يقضي اجمل لحضاته مع اولاده التي توردت خدودهم بالحمرة – وبانت عليهم علامات الغنى وهم يمرحون كالعصافير الامنة بين السواقي المظللة بالافياء والاجواء العامرة بالراحة – بعد ان اسدلوا الستار على سني الجوع والفاقة المقرفة للابد
عندما حل المساء وارتدى عباءة الظلمة دخل ابناءه البيت ليتناولوا العشاء وبينما هم داخل الغرفة الخالية من الضوء لاحتراق مصباحها الوحيد الذي نامت فوقه خيوط العنكبوت من عصر فجر السلالات.. نسوا ان والدهم لازال نائما في فراشه .
فداس احدهم على بطن ابيه من دون ان يدري فاستيقظ من حلمه من شدة الالم فوجد نفسه داخل غرفته القديمة بحيطانها الصدئة بفراشها العتيق البالي فراح يبكي على ضياع الحلم ومن الوجع الذي سببه له ابنه فألتقى الوجعان ليصبان في نهر طويل مثقل بالهموم يمتد حتى اخر نقطة في الكرة الارضية