فبراير 5, 2025

إن الكرامة كقيمة إنسانية فطرية تولد مع المرء وتتنامى عند الذي يحترم نفسه ويعزها، وتنقص وتزول عمن يذلها ويحتقرها، كما أنها لا تتغير طواعية إلا بصنيع الفرد نفسه، ولا يغيرها المنصب أو المال أو غير ذلك من الامتيازات الدنيوية، والكرامة لا تفرق بين الناس؛ فقد تتواجد في الفقير وتنعدم في الغني، ولربما تسلب من مسؤول كبير وتتوفر عند عامل بسيط، كما أنها لا تتجزأ ولا تمنح لأحد، فإذا أخذت من المرء كرها لا تسترد بطيب خاطر بل تنتزع لأنها حق طبيعي مشروع، ولا يسلب الكرامة من الآخرين قهرا بفعل قوة ما إلا الفجرة اللئام.

لا تقتصر الكرامة الإنسانية فقط على توفير حد الكفاية من المتطلبات المادية للفرد، لأنها تتمثل أكثر في إقرار حقوقه المعنوية التي تمنعه من كل أصناف القهر والإذلال والشعور بالدونية، لكي يعيش معززا مرفوع الرأس ضامنا لكرامته التامة، وهذه المسألة لا تطرح بمعزل عن السياق الاجتماعي الذي يحيط بالفرد، فاحترام الكرامة الإنسانية أو انتهاكها يعتمد في جانب كبير منه على القواعد العامة التي تنظم السلوك وترعاه في المجتمع الذي ينتمي إليه الفرد.

وتبقى الكرامة لصيقة بالإنسان السوي وغير قابلة للانفصال عنه، فبمجرد نزعها منه إلا وجاز بالمنطق الحقوقي تسويته المعنوية بغيره من الكائنات غير البشرية؛ ويصبح شأنه كشأنها في الواقع والتعامل، وأعني بالذات تمريغ كرامته واستعباده وإذلاله بشتى الوسائل التي لا تخطر على البال، والتي قد تصل إلى درجة قمعه بوحشية وتعرضه للاعتداء بالضرب المبرح والتنكيل وسوء المعاملة وذلك بطرق سادية يندى لها الجبين؛ فلا يقدر بعدها حتى على القيام بأبسط ردة فعل إذ لا يقوى أن يحرك ساكنا وكأنه حجز أصم، لأن الفاقد للكرامة مقيدة قواه لهذا يصير ضعيفا جدا لا يستطيع المواجهة وإنكار ما مورس عليه من سلب وأفعال شنيعة.

لأنه يدرك يقينا أنها من أعز ما يملك المرء؛ فلو وضعوه بين خيارين: الأول صون كرامته والثاني أخذ مال الدنيا لاختار الأول بلا تردد، بل والأكثر من هذا فهو مستعد أن يلقى حتفه عزيزا على أن يحيا بلا كرامة، لأنها هي من تفرق بين أن يكون إنسانا وبين أن يكون لا شيء، فالذي يعيش بدون كرامته ذليل يستجدي العطف ولا يجده حتى فيمن يدعون حبهم له، ويتسول الشفقة ولا يلمسها حتى في أقربائه، قد تستسيغ النفس البشرية العليلة بالتنازل عن أشياء مادية أو معنوية لغرض لحظي لا يتعدى هذه الدنيا، وذلك بالتبرير المغلوط بالاعتقاد بأن الحياة تجبرنا أحيانا على الاختيارات المُرة، لكن في الحقيقة ليس هنالك ما يرغم أحدا على التخلي عن الكرامة مقابل الحصول على مكاسب نفعية؛ لكونه فعلا دنيئا لا يمكن أن يقبله لا العقل السوي ولا الضمير الحي ولا الفطرة السليمة ولا الشرع الحنيف ولا حتى القانون المتزن، إذ لا وجود لمصلحة تستحق أن يطأطأ الرأس لها لتداس الكرامة من أجلها لأنها فوق كل شيء؛ فالأمر محسوم على الدوام عند الشرفاء.

وما وُجدت الانتفاضة من أجل الكرامة إلا للانتصار ضد تلك السلوكيات السلطوية الحقيرة التي تحاول إذلال البشر وتحويلهم إلى عبيد، ولرد الاعتبار لمن هُضم من حقوق وانتشال المرء من الوضع المشين الذي تخلفه الممارسات البائدة، فحين تمس كرامة الإنسان يصبح صاحب قضية عادلة يسعى جاهدا إلى تغيير واقعه فيرابط ويكافح بنضال واعي من أجل استعادة كرامته مهما كلفه ذلك من أتعاب وعواقب لا تساوي شيئا أمام الذي حصل له ودفعه إلى الانتفاضة.

وأكثر ما يغذي فكرة الانتفاضة من أجل الكرامة هو اعتبارها سلوكا حضاريا يعكس ارتفاع منسوب الوعي ويقظة الضمير الإنساني، ولكونها أيضا كفاحا مستميتا يشعر فيه المناضل لأجلها بالعزة رغم كل ما قد يتعرض له من مضايقات وتصرفات غير أخلاقية إلا أنه لا يحيد عن السبل التي تبعده وتدفع عنه كل ما يمكن أن يكون سببا في إذلال نفسه، لهذا فعملية إعلاء قيمة الكرامة هي التي تقوي إرادة التحدي والصمود وتقود الفرد إلى رفض التسلط والجور، وتمنعه من الخضوع والاستكانة إلى الواقع الفاسد.  

إن الذي ينتفض لأجل الكرامة لا ينهزم ولا يمكن أن ينجذب للمغريات التي تعرض أمامه وتقدم له في طبق من ذهب مقابل التنازل عن كرامته، فلا شيء أثمن عنده من الكرامة التي يستحيل مقايضها أبدا، وكل ما يمكن أن يعانيه ويتعرض له في سبيل نيل كرامته التامة يهون لقوة مبدئه وثباته عليه، كما أن الذي لا يخلع ثوب كرامته عنه منصور دائما وإن حورب بشتى الوسائل، أما الذي يلقي بكرامته ويحط من قيمته التي لا يمكن له إرجاعها ولو أراد أن يؤدي من أجلها الغالي والنفيس.

ويمكن القول دون أية مبالغة، أن الذي يضع في المصاف الأول كرامته من المستحيل أن يساوم عليها لذا تجده على استعداد لتجسيد نضال تضحوي حقيقي مقابل نيل كرامته كاملة بتحريره من كل ما يمت بالظلم والاستبداد بصلة، لهذا فالذي ينتفض بعد محاولة المساس بكرامته إنما يعبر عن حالة تنجم عن عقله السليم والجاد ووجدانه السوي، أما الذي ينتفض فقط من أجل طمع مادي ففي الغالب ما يفشل في تقديم تضحيات جسيمة لنيل مطلبه لعجزه المبدئي، بل وقد يعبر على نقيض ما يعبر عنه ذاك الذي ينتفض من أجل كرامته.

الجواب بسيط لكونها مطلبا إنسانيا يسترد من خلالها هذا الحق حين يغتصب من المستضعفين، وبالخصوص عندما يكون القانون غير عادل والقضاء غير نزيه وكفة القوة بين المغتصب والمغصوب غير متكافئة، كما أن صون كرامة الآخرين تكون بالأساس من باب الواجب الأخلاقي من دون أية منة، فالإنسان المقهور المنتفض لا يحتاج للتضامن القلبي ولا لشفقة أحد لاسترجاع كرامته كاملة، لذا فهو يسعى إلى رفع الظلم الممارس عليه والتخلص من كل ما ينتزع منه كرامته بمفرده ومع من يسانده قولا وفعلا، لكي تزول عنه القوى الخارجية التي تحاول وضعه في وضعية الضعيف الراضخ.

وبما أن جميع الدساتير القانونية الموجودة اليوم أقرت للإنسان مجموعة من الحقوق الأساسية يمكن ربطها بفكرة الكرامة، فمن المنطلق السليم والفعل الحضاري أن تكون السلطة هي القائمة على حرس الفضائل الاجتماعية، وتعمل بجد على مقاومة الرذائل والحد منها عبر توظيف القانون بشكل نزيه، حين يقلل من احترام كرامة الإنسان سواء صراحة أو بشكل ضمني، وهذا وحده لا يكفي بل لابد من تشجيع الخطاب القيمي الذي يحض على النبل والسمو الأخلاقي في التصرف، وبالرغم من استعماله في مختلف الانتفاضات التي تقوم من أجل صون الكرامة واستردادها، إلا أن أطروحات السلطة الحاكمة في أغلب الأحيان تربط بين الانتفاضة والفوضى وزعزعة الاستقرار لتغليط الرأي العام وتضليله وصرف الأنظار عن السبب الحقيقي وراء الانتفاض السلمي.

والأهم من كل ما ذكرنا أنه لا ينتظر نجاح الانتفاضة من أجل الكرامة في ظل غياب الأنموذج الجذاب لها، خصوصا مع فقدان الوعي النضالي المعقلن الذي يأتي نتيجة عدم القدرة على التخطيط الرزين للفعل الثوري؛ فالنضال بدون عقل نير وعاطفة نبيلة مجرد بهرجة، لهذا يلزم إبداع أشكال حضارية جديدة للنضال تلائم الوضع الواقعي والسياق الذي يفرز ذلك النوع من الانتفاضات التي من ورائها مقاصد نبيلة وليست مجرد وسيلة عملية لاسترجاع الحقوق المهضومة والمسلوبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *