نوفمبر 22, 2024

خطر لي الأمر حين انتبهت إلى أنها ترتدي “شورتا” قصيرا.. قصيرا جدا.. لكن لم؟ إن صوتها وأداءها جميلان للغاية.. ألا يكفيها أنها أدت أغنية لفيروز على نحو جميل؟ لم عليها أن تبدو مثيرة؟ بدا لي نشازا.. لا علاقة له بالأغنية ولا مسوغات منطقية له.

في كل المحتويات المرئية، نرى المرأة ومن يقدمها حريصين على أن تبدو غالبا بمظهر ليس جميلا، بل مثيرا. وهذا ما يجعلني أتساءل.. ما الذي قد يجعل الأنثى حريصة كل هذا الحرص لدرجة يمكن معها القول إنها ربما تظن أنه من واجبها أن تبدو مثيرة؟ متى ولماذا أصبحت الإثارة شيئا مشاعا في كل مكان، من العموم إلى العموم، غير مرتبطة بأي سياق خاص بين شخصين؟

إننا إن ألقينا نظرة على المحتوى المرئي (أفلام ومسلسلات) للقرن الماضي، ثمّ عدنا وألقينا نظرة على أفلام هذا القرن.. سنلاحظ فرقا هائلا في المظهر، في الخطاب والمضامين الصريحة وحتى تلك الغير مباشرة من إيحاءات وما إلى ذلك. كان حينها الأمر متروكا لخيال الأدباء، فكانت المرأة تقدم ككائن رقيق، وكثيرا ما يقدم النموذج المثقف، الذي حظي بتربية وتعليم راقيين، كائنا جميلا ورقيقا يعامل باحترام ولطف.. وتقاس قيمة الرجل وتربيته وثقافته بمدى قدرته على التعامل معها وتقديره لها..

كانت المرأة تبدو جميلة، لكن لم يكن هناك تركيز على أن تبدو مثيرة. وفي السينما المصرية كمثال، كانت تسمى “ست”، “بنت”، “هانم”، “آنسة”. فيقال: “ست جميلة” أو “بنت جميلة”. والجمال كان يقصد به جمال الوجه، ولم يكن هناك تطرق لجمال الجسد. أما اليوم، فالسينما المصرية صارت تدعو الأنثى الجميلة “مزة” أو “صاروخ” وفي محتوى أكثر بذاءة قد تدعوها “حِتّة”. صارت الفتاة تدعى “مزة”، لأنها صارت شيئا معروضا للاستهلاك. وصار الرجل يستأهل الاعجاب كلما كان قادرا على الاستهلاك أكثر. أما المشاهد التي فيها إن شئنا تسميته نوعا من الإثارة المشاعة (الغير مرتبطة بسياق خاص بين شخصين)، فحين كانت تقدم في السينما المصرية مثلا، فقد كانت مرتبطة بسياقات معينة كأوساط مهن الرقص، والكاباريهات وما جاورها.

في مراهقتي.. قرأت كثيرا لإحسان عبد القدوس، الذي كان يقدم في رواياته صورة تفصيلية لمعيشة مختلف طبقات وفئات المجتمع المصري، مما كان يصنع في ذهني صورة واضحة تجعلني أقول أنه كان ماضيا نحو رقي و نهضة ثقافية واجتماعية (وكانت بالضرورة لتصير اقتصادية وسياسية لأن الوعي يصنع التغيير كنتيجة حتمية له). ماذا حدث حتى انهار هذا المجتمع وانهار كل ما كان من قيمه.. وصار بيئة موبوءة مليئة بالفساد وصار شبابه ذوي كيان شهواني استهلاكي وسلوك غاية في الغوغائية.. يتمظهر في حوادث الاغتصاب والتحرش اليومية بصورة مهولة؟ والشباب المصري هو مجرد نموذج يمثل باقي الشباب العربي وما يسكن أذهانهم التي لوثت وخربت تخريبا. و الحقيقة أن الحال في العالم ككل هو نفسه لكن بدرجات مختلفة.

ماذا حدث؟.. حدثت الثورة التكنولوجية.. صار الإنترنت متاحا للجميع وصار كل شيء موجودا عليه. ولأن هدف الربح هو الموجه الأساسي لنوعية المنتجات، ولأن أكثر ما سيستهلكه الناس هو ما يجعلهم يشعرون بالسعادة والاستمتاع، فقد تضاعفت كمية المنتجات المرئية، وتحديدا تضاعف حجم الصناعة التي خربت كل شيء. الصناعة الإباحية، التي شكلت عقول من استهلك محتواها منذ الصغر أو المراهقة على نحو جعله غير قادر على أن يرى في المرأة سوى كائن مثير يلبي غرائزه. شكلت وعيه بشكل جعله يلخص العلاقة فيما هو جسدي.. وحتى هذا الأخير جعلته يتمثله بشكل مشوه للغاية.

الكثيرون لا يعلمون أن ما رآه الشاب، وكون انطلاقا منه تصوره عن العلاقة بين الرجل والمرأة، خرب كيمياء دماغه المرتبطة بهذه العلاقة.. كيف؟ إن ما شاهده، جعل تفاعل كيمياء دماغه التي تشكل كل الأحاسيس تتطلب شروطا موضوعية صعبة التحقق في الشريك، وربط أيضا تمثله حول الفعل الجنسي بالتغيير المستمر للشريك والظروف والسيناريوهات، وبأشياء وتفاصيل كثيرة لا علاقة لها بالواقع، أو على الأقل بواقع طبيعي. هو لا يفكر أن أولئك مجرد ممثلين، بل إن ما يراه هو بالنسبة لعقله الحقيقة. ودون الخوض في التفاصيل، التي يمكن لأي مهتم أن يطلع عليها في الإنترنت بالبحث عن موضوع إدمان الإباحية.

هذا المحتوى، جعل منه شخصا غير قادر على الشعور بالرضا ولا بأي متعة في علاقة طبيعية. كما أنه أفرغ العلاقة مع الأنثى من جوانبها العاطفية والإنسانية، واختزلها في الجانب الجسدي. أما المرأة، ونتيجة للتعاطي مع نفس المحتوى الإباحي، صار لديها تمثلا مشوها عن نفسها. والأخطر مما صارت تراه هو ما صارت تشعر به. إن ما نشاهده لا يجعلنا فقط نتصور أشياء.. بل يشكل أحاسيسنا وشكل تفاعلنا مع الوجود. المرأة التي شاهدت هذا المحتوى وتعودت عليه، رأت الأنثى مهانة، لكنها مستمتعة للغاية بذلك. هكذا، صار الوضع المهين في عقلها لا يثير أي رفض.. بل بالعكس.. صار مثيرا للمتعة.

أما في نظرتها و في علاقتها مع نفسها، فقد صارت تعلم داخلها أن عليها الاهتمام أولا وقبل كل شيء بمظهرها، حتى وإن لم ترغب، فعليها ذلك لتسطيع المنافسة مع الأخريات. صارت تقيس قيمتها بمدى جمالها وقدرتها على أن تكون مثيرة. فصارت حريصة على ذلك في كل وقت ودون أن يكون الأمر مرتبطا بعلاقتها مع شخص معين، بل صارت إثارتها شيئا مشاعا.. وفرضا يوميا واجبا.. لأنه مرتبط ليس فقط بشريكها، بل بقيمتها وسط المجتمع. عليها أن تكون مثيرة، لتكسب الاهتمام و الإعجاب والنجاح.

إن الإباحية، تعرض أشياء مقرفة على أنها أشياء تبعث على السعادة و النشوة. تسوق للإهانة والسباب والعنف على أنها أشياء مثيرة وممتعة. تصور كل التفاصيل بشكل يختلف كليا عن طبيعة الأمور وفطرة البشر السليمة. الإباحية تشوه العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة، تخرب نظرتهما لبعضهما ولنفسيهما. الإباحية التي استهلكها شباب هذا القرن منذ بداية اكتشافهم لذواتهم وللعالم من حولهم، هي برأيي السبب المباشر لما صار يملأ شوارعنا من تحرش.. وهي السبب في خراب أغلب العلاقات لما تبثه من سم في كيمياء الدماغ وفي تمثلات الطرفين وتوقعاتهما المشوهة.

الإباحية شوهت وعي الجيلين الأخيرين تماما، وهيأتهما للتحول إلى كائن مستهلك للسطحية والابتذال بشكل عام في حياتهما. كائن بعيد كل البعد عن قيم الرقي الإنساني.. كائن لا يتذوق الفن ولا الأدب.. بل يهرول إلى نشوة سريعة مؤقتة تبقيه خاوِيا تماما بعدما تتلاشى.. تخربه مرة بعد مرة حتى يصير عاجزا عن استشعار أي سعادة حقيقية أو متعة في أي شيء.

الإباحية هي أخطر ما خرب فطرة الإنسان في هذا العصر، لأن أخطر ما قد يحدث لإنسان؛ هو أن يتعرض لتعديل مباشر في كيمياء دماغه لمحفزات شعوره بالسعادة والرضا في الحياة، تعديلا يجعل هذه السعادة مرتبطة بشيء واحد، وحتى هذا الشيء يصير عاجزا مع الوقت عن بث السعادة، ولابد أنه إن استسلم له سينتهي به الأمر وحيدا فاشلا وغالبا منتحرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *