اسم الكاتب : ايناس سعدي عبدالله
كانت الأكثرية الغالبة من سكان العراق في مختلف الفترات من الفلاحين من سكنة الريف، لأن جميع الذين يكسبون معاشهم من الرعي أو الزراعة يدخلون ضمن تعريف أهل الريف، وعلى الرغم من ارتفاع نسبة المزارعين من سكان العراق بحيث بلغت مع أواخر الحكم العثماني أكثر من (60%) نظراً لاستقرار بعض القبائل البدوية واشتغالها في الزراعة، إلا أنه بالإمكان القول أن مستوى الإنتاج الزراعي أخذ بالانخفاض لأسباب عديدة منها: علاقة الفلاح بالأرض، ولأن المزارع الجديد كان قليل الخبرة كثير الميل إلى التنقل، أضف إلى ذلك استمرار تأخر أساليب الزراعة ووسائل الإنتاج ورداءة طرق المواصلات وبخاصة في أيام الشتاء الموحلة. وكانت الزعامة أو الرئاسة في تلك القرى بيد الأغا أو الشيخ أو المختار وكثيراً ما أستغل أحد هؤلاء سلطانه للاستيلاء على أرض الفلاح الصغير، وبالنتيجة على القرية كلها رغم مخالفة ذلك لقانون الأراضي العثماني، إلا أن السلطات العثمانية قد سكتت عن خرق الأغا للقانون خشية جانبه، وقد سادت هذه الطريقة في مناطق كثيرة في العهد العثماني، حتى أصبح الفلاح بعدها عاملاً مأجوراً للأغوات دون أن يكون له أية حصة في غلة الأرض. منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبسبب تصدع النظام القبلي تدريجياً وإسكان العشائر ونشر الأمن في العراق أخذت ملكية الأرض تتوزع بين المتنفذين من الشيوخ والأغنياء من سكان المدينة. من جهة أخرى يمكن أن نشير أيضاً إلى سكان الأهوار في جنوب العراق يعيشون في جزر صغيرة جداً، منها طبيعية ومنها اصطناعية يشيدون عليها بيوتهم البدائية المصنوعة من القصب والبردي اللذين كانا ينبتان بكثرة فيها. والأهوار بصورة عامة، كانت ضحلة لا يزيد معدل عمق مياهها عن ثلاثة أقدام، كما إن قسماً من مياهها كان يجف في بعض السنين حتى يصبح السير فيها على الأقدام ممكناً، وكان النقل فيها يتم بواسطة قوارب خاصة تسمى (المشاحيف). وقد أرتزق الأهالي في المنطقة من تربية الجاموس وزراعة الرز وصيد السمك، وكان الجاموس يؤلف ثروة كبيرة للأهالي. إلا أن حياة السكان كانت قاسية للغاية وطرق معيشتهم بدائية ونستطيع القول بأنهم كانوا يعيشون على هامش الحياة معرضين في كل لحظة لفتك الأمراض والأوبئة وبخاصة الملاريا. ارتكزت حياة المجمعات الفلاحية على طول ضفاف نهري دجلة والفرات، وشط العرب والفروع المتشعبة منها والروافد التي تزودها، والأهوار الملحقة بها. عدت المنطقة الواقعة في أواسط الفرات وأسفله أكبر منطقة تسكنها القبائل المستقرة التي تشتغل بالزراعة، وهي أيضاً من أقدم المناطق المأهولة بالنظر إلى طبيعة الأراضي هناك وسهولة انسياب المياه فيها إلى مساحات واسعة. وبالإضافة إلى هذه المنطقة كانت الأرياف تمتد على طول نهر دجلة من موقع العمارة جنوباً حتى نهر ديالى شمالاً، وتشتمل على أراضي خصبة ومياه وفيرة وانتشرت الأرياف أيضاً في المناطق الممتدة على طول نهر شط العرب، وفي شمال القطر تناثرت القرى في السهول التي توفرت فيها المياه بدرجة كافية للزراعة. وكانت الحياة في القرى على أنواع، فهناك من يسكن الأكواخ المصنوعة من الطين أو القصب، وهم على الأكثر من القبائل نصف المتحضرة، ومنهم من يسكن قرى كبيرة تقرب معيشتها من معيشة أهل المدن الصغيرة. إن أكثرية القرى العراقية كانت صغيرة لا يتجاوز سكانها الخمسين نسمة وقسم منها كانت كبيرة يزيد سكانها على بضع مئات من الأنفس وتدريجياً كانت تتحول إلى مراكز لبعض الأعمال التجارية البيع والشراء للقرى الصغيرة المجاورة فتصبح سوقاً تؤمها العشائر في المواسم لسداد حاجاتهم وبيع محاصيلهم، وفي مثل هذه القرى كان يوجد عادة إمام مسجد ومختار وأعضاء مجلس الاختيارية وهؤلاء كانوا ينظمون شؤون القرية بعيداً عن سلطة الحكومة. ويمكن تقسيم الفلاحين في القرى والأرياف العراقية إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: وهم فلاحو الفاكهة والخضروات وكانوا أسعد حظاً من البقية وأكثر دخلاً.
القسم الثاني: وهم فلاحو المنطقة الشمالية ( عدا القسم الجبلي) وكانوا يزرعون المحاصيل الشتوية بانتظام ويصرفون جهداً كبيراً ولهذا كانوا في وضع متوسط.
أما القسم الثالث: فهم فلاحو المنطقة الجنوبية (عدا زرع الشلب) فكانوا أقل تنوعاً في زراعة المحاصيل ولهذا كانوا أفقر الفلاحين حالاً.
كان غذاء الفلاحين وبخاصة الأغلبية الساحقة منهم كان بسيطاً جداً ومتشابها تقريباً ويتكون على الأكثر من الحبوب كالرز والحنطة والشعير والذرة والدخن، وكذلك بعض المنتجات الحيوانية مثل اللبن والسمك وكذلك التمر والخضروات وقليل من اللحم في فترات متباعدة وربما في الأعياد فقط. ومن جهة أخرى كان يقيم إلى جانب الفلاحين في بعض القرى الكبيرة بعض الحرفيين مثل النجارين والحدادين والباعة والوسطاء. أخيراً نقول أن طبقة صغيرة في عددها، كبيرة في نفوذها وثروتها، هي طبقة الملاك، وهي مؤلفة من شيوخ القبائل والأغوات وأصحاب الأراضي، كانت تستغل موارد البلاد الطبيعية والبشرية ولها دخل يزيد عن حاجتها الضرورية والكمالية، في حين أن طبقة الفلاحين كانت فقيرة تعيش عيشاً بائساً جداً لا تحصل على حاجتها الضرورية من مأكل ومشرب ومسكن ومن تعليم وصحة إلا بصعوبة جعلت عيشتها دون المستوى الضروري المعقول من النواحي المادية والثقافية والاجتماعية، وأن آثار تردي المستوى المعاشي كانت واضحة عليها من انحطاط الصحة العامة وسوء التغذية ورثاثة الملبس ورداءة المسكن وشيوع الأمية والجهل طيلة الفترات التي تعرض لها العراق إلى عدد من الغزوات الأجنبية ابتداء بالمغول وانتهاء بالعثمانيين.