نوفمبر 22, 2024
440988586_319853194481443_7870592390719142899_n

اسم الكاتب : رياض سعد

لأن الإنسان ابن بيئته , كان ولا زال متأثرا بمجتمعه ومنفعلا بفواعل بيئته ؛ فسلوك الإنسان وطباعه وثقافته ما هي إلا امتداد لعناصر بيئته وطريقته في التواصل والتعاطي معها ، فهي من تصقله وتلونه حسب جغرافيتها ومناخها وثقافتها واحوالها السياسية والاقتصادية والاجتماعية … ؛ وبالتالي صار لزاما على المرء ان اراد ان يحيا باستقرار وامن وامان ؛ ان يذهب الى بيئة امنة هادئة مستقرة ؛ لان البيئة البائسة والمضطربة والتي تعاني من مختلف المشاكل والازمات  ؛ والمصابة بكافة الامراض والسلبيات ؛ لا تنتج مواطنا سليما او انسانا ايجابيا ؛ لذا قيل : ان الاتزان في مجتمع غير متوازن , عملية صعبة للغاية ؛ فمن سابع المستحيلات ان تعيش بدور المفكر الحكيم والفاضل الحليم وسط شراذم الحمقى والمجانين  والمرضى والشاذين  … ؛  فاذا كانت البيئة قوية كان ابناء المجتمع اقوياء اذكياء احرارا ؛ واما اذا كانت ضعيفة وهشة , صار ابناء المجتمع ضعفاء متخاذلين جبناء اذلاء جهلة … الخ ؛ وقد ظن البعض ان التغيير مرتبط بنفوسهم وشخصياتهم فحسب ؛ وعندما غيروا من نفوسهم , وبدلوا افكارهم وعاداتهم , وراجعوا تصرفاتهم وسلوكياتهم , واجروا التعديلات عليها ؛ واستبشروا خيرا بما فعلوا ؛ وانتظروا النتائج الايجابية المترتبة على ما قاموا به ؛ حتى صدموا بالنتائج الواقعية وباءوا بالفشل الذريع ؛ لانهم ظنوا انهم مركز الاحداث ومحور المقدمات والنتائج ؛ وبأيديهم السلبيات والايجابيات   ؛ ولم يحسبوا حسابا لقوى المجتمع الضاغطة , وظروف البيئة المؤثرة … ؛ لذا  جاء في الأثر :  “من جاور السعيد سعد” ؛  فهذه حقيقة واقعية ,  فالمرءُ يتأثر بمن جاوره وصحبه وعاشره ، وقد جرت العادة أن يقال : “من عاش مع قوم أربعين ليلةً صار منهم” … ؛ وقد فطن البعض وعرفوا ان التغيير الايجابي لا يعتمد على الجهود الشخصية  للمواطن او السمات الوراثية للشخص ؛ بقدر ما يرتبط ارتباطا وثيقا بظروف المجتمع واحوال واوضاع البيئة , لذلك تقينوا بأن تغيير البيئة يساوق تغيير حياة الانسان ؛ بينما تغيير الانسان الواحد لا يعني تغيير ظروف البيئة ؛ ومن اراد ان يتغير نحو الافضل ؛ يقع على عاتقه مسؤولية البحث عن البيئة المناسبة , فقد يرتحل إلى بلدانٍ ومدن اخرى … ؛ وقد يجد فيها من الفرص التي لم تتوفر في موطنه وبيئته .

  فالإنسان هو ابن بيئته، لأن البيئة هي ما تملأه وتضيف له، وتبدأ بصقله منذ صغره  ، ففي البيئة والمكان الذي يولد  فيه المرء ؛ يعيش تجاربه وعلاقاته فيه ,  ويشارك اقرانه ومعارفه المشاعر والخبرات والتجارب ؛ مما يشكل طبيعة تفكيره وشخصيته فيما بعد … ؛ نعم قد يولد المرء وهو يحمل الكثير من السمات الوراثية التي تميزه عن الاخرين ؛ الا ان ظروف البيئة وعواملها ستساعد المرء بإظهار هذه السمات الداخلية أكثر فأكثر … ؛ وقد يصنع الانسان بيئته احيانا اذا تضافرت جهود قومه معه في تغيير الحال  ؛ فالمعادلة معقدة , اذ قد تكون البيئة نتاج افعال الانسان , وقد تكون تصرفات الانسان بسبب عوامل وضغوط البيئة , فنحن عندما نذكر في هذه المقالة قوة تأثير عامل البيئة ؛ فهذا لا يعني اهمال العوامل الاخرى التي تؤثر فينا ؛ ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض لأنها في حلقة تكاملية، ومن بين هذه العوامل : الجينات، البيئة، النشأة والتربية العائلية ، والهرمونات… ؛ فهي  لا تعمل بشكل منفصل، بل تتفاعل مع بعضها البعض وتؤثر على بعضها... ؛ وأن تأثير كل عامل يختلف حسب الظروف والعوامل الأخرى المتفاعلة.

ويبقى عامل البيئة الاقوى في تكوين شخصية المرء وسلوكه , فالمرء يتأثر بقيم وتقاليد واعراف مجتمعه وظروف بيئته الطبيعية والمناخية ؛ مما ينعكس على شخصيته سلبا او ايجابا … ؛ فالإنسان هو نتاج تفاعله مع بيئته ؛  فهي التي  تشكّل أفكار الإنسان وتصوّراته وسلوكه … ؛ نعم تأثر الإنسان بالمحيط أمر مسلم به، وهي حقيقة ماثلة، فكون الإنسان اجتماعيا بطبعه يستدعي تأثره بالبيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، يفكر بتفكيرها ويتخلق بأخلاقها ويدافع عن قيمها، لأنه يصير جزء منها ولا تكتمل بدونه... ؛ فمن ينشأ في بيئة لا يسود فيها إلا الانحراف الأخلاقي والسلوكي والفكري ولا صوت فيها يعلوا على صوت  العنف والفساد والجهل والتفاهة والابتذال والسقوط  والضياع … الخ ؛ سينجرف مع الامواج الفاسدة العاتية ؛ وسيصاب ببعض امراض مجتمعه , شاء ام أبى .

ومما لا شك فيه ان المجتمعات  المأزومة والمريضة والضعيفة ؛ مصابة بكافة العلل النفسية والامراض والظواهر السلبية ؛ حيث يطغى عليها العنف بكل اشكاله , ويخيم على الفضاء العام فيها الجهل والتخلف والامية والرجعية الماضوية السلبية ؛ وفي هذه المجتمعات تجد العراك والخصومات تحل محل النقاش والحوار والمباحثات ,  والاتهامات والاحكام الجاهزة والافتراءات محل الاحترام وحسن الظن ومكارم الاخلاق ؛ والكل عندما يتحدث يدعي انه يحتكر الحق والحقيقة , وكأنهم اصحاب الملكية الحصرية للحق والحقائق والمعرفة والعلم والفضائل ؛ ولا يخجلون من تسفيه اراء الاخرين وتفنيد افكارهم لمجرد اختلافهم معهم … ؛  والمشكلة ان البعض يدعي المثالية والاتزان وهو في قعر المجتمع المليء بشتى العاهات والامراض والسلبيات ؛ فمن لا يتأثر بما يدور حوله , فهو اما مجنون او صنم لا يسمع لا يرى لا يتكلم لا يشعر لا يفكر … ؛ لان الانسان الطبيعي يتأثر بما يصيب اهله وشعبه وما يتعرض له وطنه من ماسي ونكبات وعذابات ومؤامرات ؛ فالشخص الذي لا يعيش القلق الوجودي ولا يتحسس الام الاخرين , ولا يشعر بمعاناة ابناء جلدته , ولا يحزن لما يصيب قومه واهله , ولا يهتم بالإهانة والذل , ولا ينتفض على الظلم والجور ؛ فهذا اشبه بالميت , وينطبق عليه قول شاعرنا الكبير المتنبي :

مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ *** ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ

وبناء على ما تقدم , من الطبيعي اصابة هذا المواطن او ذلك الشخص بالأمراض النفسية , بسبب التجارب المؤلمة والظروف العصيبة التي مر بها ابناء المجتمع , وهذا الامر لا يعد عيبا او ضعفا , فالإنسان ابعد ما يكون عن الكمال , والكمال لله كما قيل قديما , وقد ذهب بعض علماء النفس : ان الانسان السوي ذلك الانسان الذي يعيش مع علاته ويتكيف مع سلبياته وهو يسعى للتخلص منها بالطرق العلمية والممكنة , و طالما نشاهد اشخاص سعداء وهم مصابون بعاهات جسدية او امراض نفسية , لانهم تكيفوا معها وخففوا من اثارها وتداعياتها السلبية , بل ان بعضهم من النبلاء والكرماء الاخيار , وقد قال الشاعر فيهم :

وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها ***كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ

نعم قد يكون المرء نبيلا وسويا , اذا كانت عيوبه وامراضه بعدد اصابع اليد , و لا تخرج اثارها السلبية الى السطح , لاسيما عندما يتعامل مع الاخرين , ولا تدفعه تلك الحالات النفسية الى خرق القوانين او الآداب العامة , فنحن نتعامل مع الناس حسب الظاهر , واما بواطن الامور وما تخفيه الصدور فهذا الامر لا يعلمه الا الله , ولسنا مسؤولون عنه , لذا قال النبي محمد : ((  إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجته من بعض، وأيما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنما قطعت له قطعة من النار  )) وعليه جرت سيرة العقلاء , فالمرء السوي يتعامل مع الناس حسب الظاهر , ولا يبحث عن مكنونات الصدور او يرجم بالغيب او يتيع الظنون لاسيما السيئة منها ؛ لان البعض يرى الناس بعين طباعه , وصدق شاعرنا المتنبي  عندما قال في هذا الصنف من الناس :

إِذا ساءَ فِعلُ المَرءِ ساءَت ظُنونُهُ *** وَصَدَّقَ ما يَعتادُهُ مِن تَوَهُّمِ

فإذا كان فعل المرء سيئاً قبيحاً ساء ظنه بالناس لسوء ما انطوى عليه، وإذا توهم في أحد ريبة أسرع إلى تصديق ما توهمه لما يجد من مثل ذلك في نفسه… ؛  حيث المسيء يسيء الظن ، لأنه يصدق ما يخطر بقلبه من سوء ظن وتوهم  ؛  فكلما سمع عن شخص كلام سوء يظنه فيه لسوء وهمه وفعله … ؛ و الاولى بهؤلاء ادعياء المثالية المزيفة الاهتمام بأنفسهم وشؤونهم الخاصة  وتطوير قابلياتهم وتنمية مهاراتهم ومعالجة امراضهم , والتعامل مع الناس حسب الظاهر , وعدم اساءة الظن بالآخرين , لان سوء الظن من الامراض التي يعير بها هؤلاء الاخرين , علما ان الامراض النفسية والحالات السلبية في المجتمعات المأزومة تعتبر نتائج طبيعية وحالات اعتيادية كما ذكرنا انفا ؛ لاسيما وان المرء كلما ازداد علما ومعرفة و وعيا ونبلا وشرفا كلما كان اكثر عرضة للإصابة بالعصبية والقلق والاسى والحساسية المفرطة وغيرها من المشاعر والحالات النفسية  , وامثال هؤلاء  الذين يعيرون الاخرين بما هو موجود فيهم  او ينبزوهم  بما اصابهم من شظايا مجتمعهم ومظالم بيئتهم  , ينطبق عليهم قول الشاعر :

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ *** عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ

1 thought on “ادعياء المثالية المزيفة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *