نوفمبر 21, 2024
IMG-20230501-WA0046

اسم الكاتب : ميثم الجنابي

إن احد المؤشرات الجوهرية على الأثر المدمر لزمن التوتاليتارية والراديكالية السياسية هو صعود فكرة المؤقت بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية. إذ برزت بصورة قوية وسريعة مختلف كوامن الخلل الفعلي في بنية الدولة والمجتمع والثقافة. ولعل أشدها وضوحا هو خلل الفكرة الوطنية والهوية العراقية. وليس مصادفة أن تطفو إلى السطح ظاهرة المؤقتين، بوصفها الصيغة الأدبية للطفيلية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية. وهي ظاهرة ملازمة في الأغلب لحالة التفكك الاجتماعي والوطني في مراحل الانتقال الراديكالي. وهي ظاهرة دائمة في تاريخ المجتمعات والدول. لكنها تتخذ في مراحل الانتقال طابعا فجا وفاجعا بسبب انهيار مؤسسات الدولة الرادعة وتشتت المجتمع في صراعات جزئية هائلة مع ما يترتب على ذلك من ضعف للتكامل الاجتماعي والوطني. وهو الأمر الذي يجعل منها قوة عابرة، أي مؤقتة بكافة المعايير. وليس هناك من شيء يحكم وجودها غير الاعتياش الدائم على حالة المؤقت في النظام والحقوق. وبهذا المعنى تشكل “الوريث” الفعلي لبقايا الماضي
فمن المعلوم أن الرشوة والابتزاز كانتا تشكلان الأدوات العملية لآلية فعل وبقاء وعمل الأجهزة المتعددة والسائبة للمرحلة السابقة. فقد كانت الرشوة والابتزاز أدوات الربط الفعلية لأجهزة السلطة والداعمة لديمومتها. وهو واقع جعل من العراق في المرحلة الدكتاتورية جمهورية الرشوة والابتزاز. وفي هذا الواقع وبقايا استمراره ينبغي البحث عن آلية التحكم والتسلط. وفيه أيضا ينبغي رؤية ارث الموروث في ظهور واستفحال المؤقتين. وذلك لان الإرث الأكبر للتوتاليتارية بهذا الصدد يقوم في إفراغها الفرد من وسطه الاجتماعي، بحيث جعلت منه مجرد أداة فارغة لا هم لها سوى الهموم الصغيرة، وحاصرته بالشكل الذي جعلته مستعدا لاقتراف الرذيلة مهما كان حجمها دون أي شعور بالذنب في الوقت الذي يصلي فيه ويصوم. وهي حالة أكثر تخريبا وتدميرا لأنها تجعل من “الروحي” عاملا إضافيا في تزييف أفعاله. مما أدى في النهاية إلى إفراغ الإنسان من محتواه الاجتماعي والوطني وجعله كيانا سائبا ومؤقتا في الأقوال والأفعال والهواجس والأحاسيس والعقل والضمير والشك واليقين.
بينما تفترض الدولة والمجتمع والثقافة والفرد والجماعات نوعا مناسبا من الثبات. فالدولة تفترض ثبات مؤسساتها، والمجتمع يفترض ثبات قواعد العيش والعمل بموجبها، والثقافة تفترض ثبات مرجعيات الإبداع الحر، ووجود الفرد يفترض ثبات كينونته الاجتماعية، كما يفترض وجود الجماعة ثبات قدرتها واستعدادها على التطوع والاختيار. بينما كان الثابت، أو مطلق التوتاليتارية والدكتاتورية هو المؤقت في كل شيء. مما جعل منها مجرد آلة مخربة لكل شيء وفي كل شيء. من هنا انتقال نفسية وذهنية وآلية المؤقت بكامل عتادها، كما نراه بوضوح في عمل الإدارات الموروثة. فهي نموذج للفساد والإفساد والخراب والتخريب، يستحيل معها بناء العراق الجديد. كما يستحيل بناء دولة قوية على أسس هشة وإرساء أسس الفضيلة على الرذيلة.
فقد جعلت هذه المقدمة أغلب الأحزاب السياسية “الكبرى” والناشئة حديثا أسيرة نفسية المؤقت، كما نراها بوضوح في “النشاط المحموم” لجميع القوى السياسية، المكونة في بداية الأمر لمجلس الحكم الانتقالي في ممارسة “تداول السلطة” و”المحاصصة”. وإذا كان لهذه الظاهرة ما يبررها من الناحية التاريخية والسياسية، فان تحولها إلى أسلوب “المساومة السياسية” كان الخطوة الأولي وغير المرئية لترسخ وتوسع وتعمق وتأسيس نفسية وذهنية المؤقتين الجدد في عراق ما بعد الدكتاتورية الصدامية. وليس غريبا أن تتفاقم منذ ذلك الوقت ظاهرة النهم “غير الطبيعي” عند النخب والأحزاب السياسية “الكبرى” كما لو أنها قوة غازية خارجية. وهي حالة لا تصنع في الواقع شيئا غير حالة المؤقت في كل شيء، كما نراها بجلاء في النخبة السياسية السائدة حاليا. وفي هذا تكمن طبيعتها المفارقة بشكل عام وفي حالة العراق بشكل خاص.
إن المفارقة الذاتية للمؤقتين، أي لأولئك الذين لا تربطهم بالماضي سوى علاقة الاستلاب المعنوي، وبالحاضر سوى علاقة السرقة المادية، وبالمستقبل سوى علاقة اللامبالاة المطبقة، تقوم في كونهم يجهلون حقيقة التاريخ، مع أنهم أكثر من يتطفل على مسرحه السياسي العلني. وهي مفارقة عادة ما ترميها إلينا مجريات وأحداث المراحل الانتقالية. فهي “الحلقة” المفقودة من تاريخ الأمم، لأنها عادة ما تتخذ صيغة الزمن الضائع، أو الزمن الذي تتداخل فيه الرؤية التاريخية المتفائلة ومصالح الأحزاب السياسية والكتل الاقتصادية الضيقة.
وهو قدر عانت وتعاني منه الشعوب والأمم والدول جميعا حالما تمر بمرحلة الانتقال. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار طبيعة ونوعية وأسلوب الانتقال العاصف الذي يمر به العراق حاليا، فسوف يتضح حجم وسعة القوى المستعدة لان تكون مؤقتة، أي عابرة في مجراه، ككل أولئك الذين يجرون يوميا مثلهم مثل عابرو السبيل في طرقات تعادل كمية وحجم المطامع والمصالح ومتطلبات الحياة أيضا. غير أن للحياة كما هي، والسياسية كما هي، مقدمات ونتائج مختلفة، مع أنهما يلتقيان في نهاية المطاف فيما ندعوه بالمصير التاريخي للأمم.
ويقف العراق الآن أمام هذا المصير، بمعنى وقوفه أمام كيفية عبور مرحلة الانتقال بالشكل الذي يجعل من حياته وحياة أفراده وجماعاته وطوائفه وقومياته جزءا فعالا وعضويا في صنع قواعد الثبات الضرورية في الدولة والمجتمع والثقافة. الأمر الذي يجعل من مرحلة الانتقال هذه مرحلة صراع عنيف. وذلك بسبب كونها المرحلة التي تطرح فيها للمرة الأولى في تاريخ العراق الحديث إشكالية “المؤقت” و”الثابت” تجاه فكرة الدولة والسلطة والمجتمع والقانون والدستور. ذلك يعني أنها المرة الأولى التي تطرح فيها قضية الثابت والثبات في كل ما هو ضروري لجعل الزمن تاريخا. ومن ثم تحرير التاريخ من أن يكون مجرد تيار عابث في المصير. لاسيما وأنها حالة ليست غريبة أو مستغربة.
فالتطور التاريخي للأمم يجبرها بالضرورة على أن تقف أمام إشكالية الثبات والؤقت في مكونات وجودها. كما أن تجارب التاريخ ومصير الأمم والحضارات تبرهن على أن عدم الإجابة على هذا السؤال في الوقت المناسب يؤدي بالضرورة إلى انقراض الدولة وخمول الأمة أو غيابها من مسرح التاريخ العالمي. وهي حقيقة تعطي لنا إمكانية رؤية تاريخنا الذاتي بمعاييرها. لاسيما وأنها ليست المرة الأولى التي يقف أمامها العراق، شأن كل تاريخ عريق في المدنية. فهي الحالة التي شقت لنفسها الطريق في كل تاريخنا القديم والمعاصر كما هو الحال بالنسبة لتاريخ الأمم جميعا. وفيها وحولها تتكتل القوى المؤقتة والدائمة، التي يتحصن كل منها بيقينه الخاص. المؤقت يعتقد بأنه لا شيء غيره وأن ماله وسلطته هو الشيء الوحيد الحق. بمعنى أنه يعيش بمعايير ومقاييس المؤقت أو الرؤية “الجاهلية”. وهي رؤية لا تصنع في نهاية المطاف غير منظومة العبث، التي شكل تاريخ العراق الحديث، و بالأخص في مجرى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين نموذجها التام. كما برهن في الوقت نفسه على أنها مجرد هباء. وفيه نعثر أيضا على اعتراف وتقرير ضمني بان الشيء الوحيد الباقي هو الحق، بوصفه المرجعية المتسامية عن الابتذال مهما كان شكله ولونه ومعتقده. وسبب ذلك يقوم في أن “المؤقت” لا يصنع تاريخا. ومن ثم فهو عرضة للزوال المحكوم أما بعقاب النسيان وإما بعقاب القانون. وكلاهما من أصل واحد ونتيجة واحدة تؤدي بالضرورة إلى رميه أما إلى “سلة المهملات” وأما إلى سجون الفضيحة. وهي حالة “برهن” عليها الزمن التوتاليتاري للدكتاتورية الصدامية بصورة نموذجية لم يعرفها تاريخ العراق منذ أن هج جلجامش باحثا عن الخلود في براريه وأهواره. وهو بحث يرمز إلى أن حقيقة الخلود في العراق ينبغي البحث عنها في براريه وأهواره وليس في ردمها وتجفيفها. وهو أمر يفترض كحد أدنى الارتقاء إلى مصاف الاندماج الوجداني بالخالد فيه، أي المجرد عن كل ما يمكن ابتذاله في الأقوال والأعمال.
وتجربة ما بعد الدكتاتورية، تكشف عن أن العراق لم يحل هذه المشكلة بعد. وان المؤقت والقوى العابرة مازالت تتحكم في مساره بوصفه صرفا لزمن عابر. بمعنى إننا لم نضع بعد أسس التاريخ الفعلي للمستقبل. الأمر الذي يشير إلى فقدان البوصلة السليمة عند النخب السياسية، وضعف الوعي الاجتماعي الفعال والبديل عند المجتمع. وهذا بدوره نتاج مرحلة سابقة لانحطاط وتخريب هائل. إلا أن الأحداث الأخيرة العفوية للاحتجاج الاجتماعي ومسارها اخذ للمرة الأولى يدفع أولوية وفاعلية الرد الاجتماعي المنظم أما لتحطيم أسس النظام السياسي البائد (للدكتاتورية) وأسس نظام “المحاصصة الديمقراطي”، أو لإصلاحهما عبر تنظيم للبدائل الاجتماعية السياسية التي تنفي فاعلية واثر النخبة السياسية الحالية، والقوى “الميتة” القديمة التي وجدت متنفسا لها مما يسمى بالعلمانية والليبرالية وما شابه ذلك.
فتجربة ما بعد الصدامية وما آلت إليه الأحداث اليوم، بما في ذلك رد الفعل الجماهيري العارم في وسط العراق وجنوبه، تكشف عن حقيقة جلية، ألا وهي عدم إقناع النظام السياسي الحالي للمجتمع. وان نقطة الضعف الجوهرية فيه هي منظومة الحصص الحزبية الضيقة، التي لا تختلف من حيث الجوهر ووظيفتها عن “النظام البائد” من حيث تأديته إلى نفس المآل- الأزمة والتحلل والانحطاط..
لقد كشف نظام المحاصصة والدستور الداعم له، من انه نظام بدائي ومتخلف. وهو في الأغلب نتاج افرازات “الأقلية الكردية” المنتعشة بتقاليد المحاصصة القبيلة والحزبية التي جرى تجريبها وتهذيبها في “الإقليم” قبل سقوط الصدامية. الأمر الذي أعطى لهذه الظاهرة طابعها المدمر، وتغليب فكرة الأقلية المستفحلة، رغم خوائها المادي والمعنوي، وضعفها البنيوي وفسادها الشامل بالنسبة لفكرة الهوية الوطنية العراقية وفكرة النظام السياسي الحديث.
ولم يكن ذلك معزولا عن الاحتلال وضعف المجتمع العراقي العربي وقواه الاجتماعية. فقد كان الجميع يعاني من ضعف جلي في تأسيس فكرة الدولة الشرعية وفكرة الوطنية العراقية. مما جعل من آلية “المحاصصة” كما ظهرت في أول تشكيل “شرعي” لإدارة “مجلس الحكم” نتيجة حتمية لهذا الضعف. وفي هذا يكمن أحد الأسباب الجوهرية لنفسية المؤامرة والمغامرة في نشاط اغلب الحركات السياسية المعاصرة. وهي نفسية ملازمة لضعف تقاليد الشرعية والديمقراطية السياسية. من هنا إنتاجها لبيئة المتسلقين والمتملقين، التي عادة ما ترافقها نفسية المؤقتين، الذين تشكل بالنسبة لهم فكرة “انتهاز” الفرص الأسلوب الوحيد للتعويض عن انعدام أو ضعف الاحتراف. فالعراق ما قبل انهيار الدكتاتورية كان يفتقد للنخبة والاحتراف. بينما هي القوة الوحيد القادرة على اللمعان في سمائه وأرضه في ظروفه الحالية.
وليس اعتباطا أن تكون فكرة ونموذج “مجلس الحكم المؤقت” هي الصيغة الوحيدة الممكنة بالنسبة للنخب السياسية التي تحولت بين ليلة وضحاها من قوة مغتربة ومشردة إلى عمود الصنعة الجديدة للسلطة. وتعكس هذه الحالة طبيعة وحجم الشذوذ الهائل الذي رافق زمن الدولة، أي افتقادها لتاريخها الذاتي فيما يتعلق ببنية المؤسسات الشرعية، وتداول السلطة، وتراكم الخبرة، والكفاءة الضرورية للسلطة والمعارضة.
فعوضا عن أن يكون مجلس الحكم الانتقالي مرحلة منفية في الوعي السياسي للأحزاب والنخب السياسية، نراه يتحول تدريجيا إلى أسلوب لتأسيس فكرة المؤقت من خلال تفريخ مختلف ظواهر الحزبية الضيقة والطائفية والعرقية والجهوية في بنية الدولة ومؤسساتها وأساليب عملها. فعندما نتأمل تاريخ ظهور “مجلس الحكم الانتقالي” وكيفية فعله على الساحة العراقية والعربية والدولية، فإننا نقف من جديد أمام اغلب الإشكاليات الكبرى وبالأخص إشكالية الوعي السياسي الوطني والاجتماعي للأحزاب في مواجهة المصير المأساوي الذي تعرض له. ولعل أهم عوارض ومظاهر هذه الإشكالية تقوم في سيادة نفسية وذهنية المؤقت المشار إليها أعلاه. من هنا تعمق واتساع مدى الانحسار الفعلي لهذه القوى عندما ننظر إليه بمعايير الرؤية المستقبلية والعقلانية. وهو انحسار جلي في تناقض ادعائها الأيديولوجي بتمثيل “الشعب العراقي” وتعارضه شبه التام مع سلوكها العملي في كل شيء! وهو تعارض يستعيد في الكثير من عناصره الخطر الكامن بالنسبة لتدمير الشخصية الوطنية، واقصد بذلك إمكانية انتقال الأطراف إلى المركز، وصعود الهامشية إلى هرم السلطة، واستحواذ الأقلية على مقاليد الأمور. فهي الظاهرة التي تفسد في نهاية المطاف الجميع وتجعل من الدولة والمجتمع ضحية حماقات يصعب تفسيرها بمعايير المنطق والأخلاق! وتعادل هذه النتيجة من حيث رمزيتها فعل الأعاصير والزلازل والجراد. بمعنى إننا نرى صورة الجحيم دون إدراك مغزى العقاب فيه!
وعندما نتأمل تجربة ما بعد الصدامية وحتى اليوم فإننا نقف أمام ضعف الإدراك السياسي والتاريخي لماهية الوطنية العراقية وحقيقتها من جانب القوى والأحزاب السياسية المكونة “لمجلس الحكم الانتقالي”. من هنا انتشار وتوسع وترسخ الحزبية والعرقية والقومية الضيقة والجهوية والطائفية في كل ما تقوله وتفعله. وهو سلوك يعبر عن انغماسها العميق في بقايا ومكونات البنية التقليدية. مما يعني بدوره، أنها لم تستفد شيئا من تجربة القرن العشرين، وأنها مازالت من حيث الجوهر خارج إدراك حقائق التاريخ العراقي ومعاناته الفعلية. الأمر الذي حدد مفارقة تعامل “مجلس الحكم الانتقالي” مع حالة الانتقال أو المؤقت في وجوده السياسي. أما “الاتفاق” السياسي حول ضرورة إلغائه فقد كان تعبيرا معقولا عن إدراك قيمة المؤقت والعابر فيه.
بعبارة أخرى، إننا نقف أمام ظاهرة تقول، بأن ظهوره وزواله يمتلكان نفس القيمة “التاريخية”. وهي قيمة زهيدة للغاية. والمأثرة الايجابية الوحيدة الممكنة التي يمكن الحديث حولها بهذا الصدد كانت مرهونة في حال تحولها إلى فعل سياسي عقلاني يؤسس لقيام الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي. وفي هذا التأسيس فقط كان يمكن “لمجلس الحكم الانتقالي” أن يحتل موقعه التاريخي في حياة الدولة والمجتمع بوصفه الحلقة الضرورية (والأضعف أيضا) في إرساء أسس وقواعد الانتقال السلمي والحقوقي للسلطة. وبالتالي التأسيس لإمكانية إعادة إرساء أسس الوحدة الوطنية.
غير أن ما جرى هو إلغاء “مجلس الحكم المؤقت” وبقاء نفسية وذهنية المؤقت!! بينما الجوهري بالنسبة لإلغاء فكرة المؤقت لا تقوم في “حل النفس”، بقدر ما تقوم في تأسيس وإرساء أسس الثبات الديناميكي في بنية الدولة والنظام السياسي والحياة الاجتماعية. وهو فعل لم يكن مميزا للقوى السياسية التي شكلت عناصر “مجلس الحكم الانتقالي”. وهي عناصر مختلفة جدا، إلا أن ما يوحدها بهذا الصدد هو نفسية وذهنية المؤقت. فعندما نتأمل”المأثرة التاريخية” لمجلس الحكم الانتقالي، فإنها لا تتعدى في الواقع أكثر من محاولة إرساء أسس المؤقت من خلال ترسيخ وتأسيس فكرة المساومة الحزبية الضيقة، والإلغاء التدريجي لفكرة القانون والشرعية والمضمون الاجتماعي المتنور بمعايير المصالح الوطنية العليا.
طبعا إن ذلك لم يكن معزولا عن النقص الفعلي المرتبط “باستحقاقات” ظهوره واستلامه السلطة. إلا انه واقع لا يفسر كل حيثيات الظاهرة. وذلك لأن “مجلس الحكم الانتقالي” كان يعاني من ضعف بنيوي يبرز في التعامل مع النفس ومع الإشكاليات الكبرى التي واجهت وما تزال تواجه العراق وبالأخص ما يتعلق منها ببناء الدولة الشرعية والمجتمع المدني، بوصفها أساس الفكرة الوطنية السليمة. الأمر الذي وضعه من الناحية التاريخية أمام مفترق طرق، أما السير صوب تحقيق فكرة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي وإما السقوط في هاوية الانقراض السياسي. وذلك لأن معاداة ومحاربة الدكتاتورية الصدامية بحد ذاته ليس ضمانة لترسيخ أسس الديمقراطية، كما أنها لا تحتوي بالضرورة على إدراك لقيمة الدولة والشرعية والمجتمع المدني. وهو واقع كان يمكن رؤيته بوضوح على مثال تنامي ضعف الحس السياسي الديمقراطي، وتنامي ضعف الشفافية في المناقشة والقرارات، والانزواء المتزايد صوب “الاتفاقات” الحزبية الضيقة والجزئية، وتعاظم ميوعة الخطاب السياسي والاجتماعي والوطني وعدم وضوحه واقتضابه المزيف وانعدام المسئولية أحيانا فيه. وهي ظواهر لها أسباب عديدة منها ما يتعلق بضعف التجربة السياسية العلنية وتقاليدها الديمقراطية والكفاءة الشخصية والنزعة الأبوية والوراثية الناتئة أحيانا عند أغلبية الأحزاب والحركات السياسية، إلا أنها لا تبرر ما أسميته بالنقص البنيوي في النظام السياسي ككل.
ولعل تجربة ما يقارب العقدين من الزمن ما بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية، يكشف عن الضعف البنيوي في النظام السياسي الحالي. لقد بقي النظام السياسي “الديمقراطي” و”الدستوري” من حيث الجوهر هو نفس نظام “مجلس الحكم الانتقالي”. الأمر الذي يضع مهمة تهديمه من اجل إرساء أسس البناء الضرورية للثبات في الدولة والنظام السياسي والتكامل الاجتماعي والوطني.
إذ لا يمكن بلوغ حالة الثبات الديناميكي في العراق من خلال إعادة بناء الدولة والنظام السياسي الحالي، بل عبر إعادة تأسيس شامل لهما. فقد كشفت تجربة ما بعد الصدامية بأن النظام السياسي الحالي ليس بديلا إصلاحيا للماضي بل استكمال له. الأمر الذي يفترض تحقيق البديل المنظومي الشامل بهذا الصدد من خلال
• إرساء أسس نظام سياسي محكوم بالدستور الثابت
• إلغاء الدستور الحالي، بعد تبين حجم وآلية الخلل فيه، وكتابة دستور جديد يتمثل حصيلة التجربة العراقية منذ تأسيس الدولة الحديثة ولحد الآن.
• إعادة توحيد العراق على أسس وطنية (عراقية) متجانسة وشرعية
فهي الشروط الضرورية لإعادة تحرير العراق من التدخل الأجنبي أيا كان شكله ومحتواه وقواه. كما أنها المقدمة الضرورية لإعادة بناء نظام اجتماعي اقتصادي فعال وحديث يعتمد على برنامج ينفي بصورة جذرية وتدريجية كل نمط الحياة الاقتصادية والاجتماعية السائد لحد الآن فيه. وهي مهمة لا يمكن للقوى السياسية الحالية القيام بها وانجازها، وذلك لأنها عاجزة عقليا وأخلاقيا وعمليا عن تنفيذ هذه المهمة. إنها مهمة القوى المستقبلية التي نرى بعض ملامحها وعناصرها في بركان الاحتجاج المتنامي. وما جرى ويجري لحد الآن هو مجرد ترامي حممه وليس رغوته النهائية التي ينبغي أن تكتسح ما هو عابر وعالق وطفيلي، مع الإبقاء على أرضية الدولة والوطن. بمعنى العمل بمعايير الإصلاح الثوري وليس بمعايير الراديكالية الثورية.
أنها قوى الإرادة الشعبية الآخذة في النمو. والمهمة تقوم في أن تتكامل بذاتها في تيار سياسي اجتماعي بديل يكنس طبقة الحراشف الطفيلية التي نمت على أرضية وخلفية الانحطاط الموروث من زمن السلطة الدكتاتورية والأيديولوجية البعثية التي لم تبعث غير الموت والدمار. أما البديل الفعلي والضروري بهذا الصدد فيقوم في قوة الحراك الاجتماعي المستقل، أي القادر على تذليل النخب المتطفلة والمترهلة بقوة الاحتلال والفساد الناتج عنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *