نوفمبر 21, 2024
8EAA5947-610E-4BA1-B6E7-D5D18A45249F

اسم الكاتب : محمد اسماعيل السراي

هل ان الحرب الثقافية والعقائدية التي شنها، ولايزال البعض  يشنها، من رجال الدين الشيعة ضد مفهوم القومية وخلقهم لمفهوم الطائفة في مجابهة مفهوم القومية العربية، سببه هو ان الحوزة العلمية بزعاماتها-خصوصا- هي في اغلبها من اصول فارسية، وان كان بعض او كثير من الزعامات الدينية (السادة)*هم من ذوي الاصول الهاشمية العربية البعيدة، لكن اصول عوائلهم وتنشئتهم وحتى لغاتهم ولهجاتهم هي لغات ولهجات فارسية . فهل لهذا الاصل العرقي او الهوية العرقية لحوزة النجف وتأثيرها الكبير على جملة كبيرة من العراقيين الشيعة الاثر في رفض شيعة العراق العرب لمفهوم القومية العربية ومحاربتهم له واعتباره مفهوما مرتبطا بالطائفة السنية او المحيط السني العربي؟
كذلك هل ان تاثير علماء ومراجع الحوزة ذوي الهوية الفارسية هو من جعل شيعة العراق لا تؤمن بالهوية الوطنية بل ان بديل هذه الهوية الواقعي- بعيدا عن الشعارات الرنانة- هو الطائفة التي اصبحت  هوية جامعة للشيعة بديلا للانتماء الوطني ؟
لا اعتقد ان هنالك ايمانا حقيقيا عند الشيعة العراقية بوجود هوية وطنية عراقية موحدة، وحتى وان وُجدت احيانا او آمنت بها شرائح علمانية من الطائفة الشيعية، فان هذه الهوية هي هوية ثانوية وهشة ازاء الهوية المذهبية التي تمثل الهوية الحقيقية لشيعة العراق، على الاقل لدى الاغلبية الشيعية بما فيهم شرائحها الشعبية الواسعة وقياداتها وسياسيها بل وحتى مثقفيها بما فيهم العلمانيين واللادينيين احيانا.
واما المكون الكردي فقد اتخذ الهوية القومية- حتى بصورة اكبر من هوية الدين الاسلامي والذي يفترض ان يكون عاملا جامعا للكرد مع بقية المكونات العرقية العراقية الاخرى ذات الاصول الدينية الاسلامية- كهوية جامعة لجماهيره، بعيدا عن مفهوم  الهوية الوطنية الحقيقي. وان الزعامات والحركات الكردية السياسية تدفع دوما نحو وحدة قومية كردية انفصالية عن الهوية الوطنية. ربما سبب موقف الكرد هذا هو في  كون  ان العرب قد صدروا الهوية الوطنية على انها هوية عربية اولاً واسلامية ثانياً وربطوا مفهوم الوطنية العراقية بمفهوم القومية والامة العربية، وهذا الطرح لمفهوم الوطنية بهذه الصورة قد تم تصديره منذ تأسيس الدولة العراقية وقبيلها عند ظهور الحركات القومية الوطنية في نهاية الحقبة العثمانية، ثم مرورا بالأنظمة السياسة الحاكمة القومية والشمولية بعد قيام الجمهورية.  وهذا الطرح لمفهوم الوطنية القومية، من الممكن ان يكون هو ما يدفع الكرد بالنأي بمكونهم عن الانخراط في هذه الهوية الوطنية التي يستشعرون فيها بضياع هويتهم العرقية اذا ما تم تذويبهم فيها. لذلك، وعلى مر تاريخ العراق  السياسي الحديث اصبحت هناك نفرة من الاكراد من مفهوم الهوية الوطنية التي اخذت طابع القومية العربية، وتقوقع الكرد حول هويتهم القومية.
اما العرب السنة فربما يمكن اعتبارهم بانهم  من اكثر مكونات المجتمع العراقي اندفاعا نحو الهوية الوطنية، لان هذه الهوية ببساطة تجمعهم بالمحيط العربي العام وهو ما يوافق اصلهم القومي والطائفي. ولا يجدون مشكلة قومية او دينية او طائفية  في تبني هذه الهوية الوطنية ذات الابعاد القومية والطائفية التي تنسجم مع اصولهم العرقية والدينية. ان اساس هذه الهوية خلقته ظروف التوجه القومي في العراق وفي غيره من الاقطار العربية في فترة أوآخر الحقبة العثمانية وظهور الحركات والجمعيات العربية التي كانت تبحث عن هوية قومية جامعة  وممثلة لها  ضمن نطاق الامبراطورية العثمانية  تميزها عن العرق التركي وعن غيره من الأعراق والمكونات التي تتألف منها الامبراطورية العثمانية. وفيما بعد، وعند تأسيس الدولة العراقية كانت الملكية تمثل هذا الخط القومي العربي الديني في تشكيل الدولة العراقية. وكذلك كان السياسيون العراقيون، وهم المؤثرون الأوائل في صياغة الفكر الوطني والهوية العراقية الوطنية وفي بناء مؤسسات الدولة العراقية، هم من الشخصيات التي تحمل هذا البعد القومي الديني، وقد عكست هذه الشخصيات السياسية هذا البعد القومي العربي الاسلامي على صورة  ونمط وتعريف الهوية الوطنية العراقية، وخصوصا ان اغلب هؤلاء السياسيين والقادة هم من اصول عرقية عربية ومن الطائفة السنية، وكذلك كان الملك العراقي فيصل الاول من هذا المكون هو وعائلته.
اما بقية المكونات العرقية والاثنية الدينية الصغيرة كالتركمان والآشوريين والصابئة والشبك والمسيحين وغيرهم من الاقليات الدينية والعرقية، فقد انكفئت هذه المكونات على ذاتها رافضة في صميمها فكرة الهوية الوطنية ذات البعد القومي والثقافي العربي الاسلامي. واخذت مجتمعاتها الصغيرة المتناثرة هنا وهناك تشكل مجتمعات محلية منغلقة اشبه ما تكون بالجيتو** المنعزل اجتماعيا عن المجتمع العراقي العام، او  المجتمعات المغلقة، طوعا تارة، كي تحافظ على هويتها واصولها الدينية والثقافية والعرقية بعيدا عن تأثير الاكثرية  من العناصر القومية المتمثلة بالعرب المسلمين، وكرها تارة اخرى، بسبب ما تلاقيه هذه الاقليات من نفرة واضطهاد مجتمعي من قبل المكونات العربية والمسلمة وعدم تقبلها او التعامل معها لأسباب كثيرة اغلبها  تتعلق بالدين على اعتبار المكونات الاثنية من غير المسلمين هي عناصر نجسه ولا يجب اكل طعامهم او الاختلاط بهم، او النفرة القومية والثقافية بسبب اختلاف اللغة والطباع والعادات الاجتماعية في ما بين هذه المكونات العرقية والدينية وبين  الاغلبية من المجتمع العراقي. وكذلك فعلت هذه الاقليات ايضا، بانها نفرت من الاغلبية العربية المسلمة واخذت تشكل مجتمعات محلية صغيرة منغلقة على ذاتها ولا يختلط أفرادها بأفراد المجتمع العام الا اضطرارا بسبب العمل او التجارة او نحوه، وكونت لها ثقافة خاصة وقيما واعرافا ولغة تخاطب يومي فيما بين افرادها، بل ان بعض هذه الاقليات قد عمد إلى تأسيس مدارس  خاصة لأفرادها وابنائها كي تجنبهم الاختلاط مع افراد المجتمع العام. لذلك  فان هذه الاقليات الدينية والعرقية كانت ايضا رافضة للهوية الوطنية التي اُسست معالمها بعد قيام الدولة العراقية في العام ١٩٢١ كونها استشعرت ان هذه الهوية لا تمثلها عرقيا او دينيا.
لكن لا يفوتنا هنا ان نرصد  صراعا آخرا فاعلا في المجتمع العراقي، لكنه كان صراعا خفيا غير منظور ولا ايدلوجية رسمية او واضحة المعالم  له، لكنه كان صراعا كبيرا ومؤثرا جدا في المجتمع العراقي ، وفي طبيعة العلاقات الاجتماعية بين مكونات المجتمع، الا وهو الصراع الطبقي.  ولم يؤدلج هذا الصراع او يعنون ويبوب الا مع ظهور الحركات والاحزاب الطبقية كالحركة الشيوعية العراقية مثلا ثم مات كايدلوجيا وفكر بموت او اندثار هذه الحركات الفكرية الطبقية او بعد تعرضها للاضطهاد والتفكيك والسحق كما حدث للحزب الشيوعي على ايدي سلطة ورجال حزب البعث، لكن هذا الصراع لم يمت او يخبو على المستوى المجتمعي والثقافي. ان المجتمع العراقي يكاد ينقسم واقعيا الى طبقتين متعاديتين، طبقة فقراء واسعة جدا وفيها كثير من الشرائح المندحرة والمدقعة فقرا من عمال وشغيلة وصنايعية وصغار العسكر او العسس والفلاحين المشتغلين في أراضي الاقطاعيين او شيوخ القبائل. وطبقة غنية متنعمة، وهي لم تكن بالطبقة الصغيرة جدا لكنها بالتأكيد اصغر كثيرا من طبقة الشغيلة والفقراء والمعدمين الواسعة. وتتكون هذه الطبقة من شرائح كبار الملاك والاقطاعيين والتجار والطبقة الحاكمة، وفي وقت ما كذلك كانت شريحة رجال الدين محسوبة اقتصاديا وثقافيا، وتقاليدا وطراز حياة، على هذه الطبقة الغنية قبل ان تتحول لاحقا الى صفوف الطبقات البروليتارية خصوصا رجال الدين الشيعة الذين ربطوا مصيرهم بمصير الطبقات الشعبية الدنيا من الطائفة الشيعية ، وايضا كانت شريحة الموظفين خصوصا الذين تشكلت ملامح شريحتهم في الفترة العثمانية الاخيرة، ومن ثم مع دخول الانكليز وتشكيل الدولة العراقية والحاجة الى توظيف العراقيين في الدولة الناشئة حديثا، وهولاء الموظفون ومنذ حقبة العثمانيين شكلوا شريحة متنعمة محسوبة على الطبقة العليا  وقد عرفوا باسم الافندية، وهم الذين خلعوا اللباس العربي وارتدوا اللبس الافرنجي، البنطلون والجاكت، والطربوش ايام العثمانيين خصوصا. كذلك الطبقة البرجوازية كانت شريحة اجتماعية لا ملامح طبقية مميزة ومتفردة لها، بل كانت هذه الشريحة تعد نفسها، اجتماعيا واقتصاديا وتقليديا، كشريحة من الطبقة العليا ولم تكن تُحسب كطبقة وسطى، على الرغم من انها عملت في وقت ما، وكذلك شريحة الافندية ايضا، على مناهضة السلطة ومحاولة تبني هموم الطبقات الدنيا والتغني بآلام الفقراء، خصوصا المثقفين والادباء من شريحة الافندية. لكن في الحقيقة كان هنالك عداءً وبغضا وحسدا من قبل الاغلبية الفقيرة ضد هذه الطبقة العليا بما فيهم البرجوازية والافندية. وكذلك في الواقع وفي صميم الحقيقة، فان هذه الطبقة العليا ومنها الافندية والبرجوازيون ايضا  كانت تبادل الطبقة الدنيا البغض والكره وتتأفف منها وتنأى بذاتها  عن الاختلاط بها ولا ترتاد انديتها وتجمعاتها وتنظر اليها كمجاميع بشرية من الرعاع والسوقة والحرافيش الاقل منزلة واعتبارا اجتماعيا منهم . وكانت لكل طبقة اخلاقياتها وطراز معيشتها وتقاليدها، واسلوب حياة وسلوكيات اجتماعية مختلفة ومتناقضة. واعتقد ان هذا الصراع والانقسام الطبقي غير المعلن والبعيد عن الانقسامات الظاهرية الدينية والطائفية والقومية، كان له اثر كبير ايضا في شرخ الهوية الوطنية العراقية وعدم تلاقي المكونات الاجتماعية العراقية في هوية واحدة موحدة.
لا ننسى ان قيام الدولة العراقية الحديثة في بداية القرن العشرين والمتمثلة بالنظام الملكي،  كانت قائمة على فكرة الدولة القومية او تبني القومية العربية في صناعة الهوية الوطنية وفي تشكيل الدولة ومؤسساتها. هذه الهوية الوطنية المرتبطة بالقومية العربية اثارت حفيظة اغلبية مكونات المجتمع العراقي.  فالمكون الشيعي الاكبر والذي يفترض انه مكون عربي، لكن هذا المكون مرتبط اكثر بفكرة الدولة او الهوية الوطنية الطائفية المتمثلة بحقوق المكون الشيعي الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. ولا ننسى ان العمق الشيعي سيكون بشكل اكبر متجها نحو شرق العراق، اي نحو ايران، ولم تختبر الثقافة الشيعية انتماء او عمقا مع المحيط القومي العربي فهذه الطائفة اذن لن تستشعر اي ارتباط او اتصال بفكرة الوطنية المرتبطة بهوية قومية تدور في محيط عربي. ويبدو ان الملك فيصل الاول شعر بهذه الحقيقة المجتمعية، فيذكر حنا بطاطو ان( الملك فيصل كان يعرف الى اي مدى يعتمد الامر على إرضاء الشيعة، ولانه يشعر بالضيق من نصف الحقيقة الذي يقول ان الضرائب للشيعة، والموت للشيعة، والمناصب للسنة. وهو نصف الحقيقة الذي يقول انه سمعه الاف المرات- فقد خرج عن مساره ليشرك الشيعة في الدولة الجديدة وليسهل دخولهم الى الدوائر الحكومية)١
  وكذلك المكونات الاخرى من الاعراق والقوميات الغير عربية وخصوصا المكون الكردي  الاكبر في الدرجة الثانية بعد المكون العربي سيجد ان هذه الهوية الوطنية القومية لا تمثل مكونه المختلف عرقيا وثقافيا عن المكون العربي والمتصارع معه مجتمعيا وثقافيا، بل حتى المكونات الاصغر سواء القومية او الاثنية الدينية ستجد ذاتها مهمشة وطنيا في اطار مفهوم الوطنية القومي الذي ارسى معالمه نظام الملكية المؤسس للدولة العراقية الحديثة على اساس العمق والمحيط القومي العربي وكذلك العمق الديني الاسلامي.
 ان المحاصصة السياسة اليوم في العراق المعاصر، ومنذ سقوط سلطة البعث ما بعد عام ٢٠٠٣،  محاصصة المناصب والسلطة ومركز القرار، يمكن اعتبارها كأوضح دليل على عدم وجود هوية وطنية حقيقية واحدة، بل هي تؤشر جليا لوجود الهويات الفرعية الاقوى سواء القومية او  الدينية والمذهبية بالذات،  بل إن هذه المحاصصة ارست قواعد الهوية الفرعية وعمقتها وزادت من تهميش وتهشيم صورة الهوية الوطنية العراقية الواحدة. فاليوم يخشى كل مكون عراقي معين من ان ينفرد مكون اخر ما، سواء اكان مكونا قوميا او دينيا او مذهبيا، بالسلطة والقرار والثروة والاعلام والتعليم، خوفا ان يحتكر هذا المكون المغانم والمصالح اوالمنافع ويقصرها على جمهور مكونه وقياداته فقط، ويقصي جميع المكونات الاخرى ويهمشها او حتى يضطهدها  او يعرضها للقتل والتشريد والاعتقال او الانتقام. ولهذا فأن كل مكون ومن خلفه ممثليه وقادته يحاول اقحام نفسه في السلطة كي يحمي نفسه ووضعه السياسي و الاجتماعي من هيمنة واضطهاد المكونات الاخرى.  بل حتى الحركات او التيارات داخل المكون ذاته اصبحت تخشى التهميش بعضها من بعض فأخذت تتصارع فيما بينها للتسلق على السلطة والقرار والنفوذ كي تأمن اولا تهميشها من قبل تيار او حزب اخر داخل ذات المكون العرقي او المذهبي وخوفا من انتقامه او مطاردته وكذلك هي في ذات الوقت تعمل على محاولة الهيمنة على السلطة ومركز القرار كي تنتقم هي ايضا من ذاك التيار او الحزب وتضطهده وتطارده.
…………………………………
*السادة :هم رجال الدينين المعممين من اصول هاشمية تعود بنسبها الى النبي محمد (ص)، ولكن اللقب  ايضا يشمل جميع الافراد المنتمين الى النسب المحمدي حتى وان كانوا من غير رجال الدين.
**الجيتــو، او المَعْزَل: هـو الحي المقصور على إحدى الأقليات الدينية أو القوميـة. ولكن التسـمية أصبحت مرتبطـة أسـاساً بأحياء اليهود في أوربا الذين فرض عليهم ان يعيشوا فيها قسرا في الغالب.
١.حنا بطاطو- العراق(الكتاب الاول)-  ترجمة عفيف الرزاز- بيروت- الطبعة الثانية ١٩٩٥ ص٤٤

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *