اسم الكاتب : صادق الطائي
في الثالث من نوفمبر الجاري، مات أحمد الجلبي.. أكثر ساسة العراق الجديد إثارة للجدل، وقبل أن يوارى جسده التراب انطلقت آلاف الأقلام مدحا وقدحا وتذكرا لما فعل وما لم يفعل، وما كان يتمنى أن يفعل، فهو من ارتبط اسمه بالإطاحة بنظام صدام حسين و(تحرير العراق) من وجهة نظر، تقابلها أنه هو الذي سلم مفاتيح وطنه للمحتل الامريكي، وهو الملياردير ابن المليونير الذي طاردته شبهات فساد مالي في الاردن ثم في عـــراق ما بعد التغيير من وجهة نظر، وهو كبش فداء لمؤامرة أردنية بضغوط من صدام حسين في قضية بنك بترا، بحسب وجهة نظر اخرى، فمن هو أحمد الجلبي من كل ذلك؟
ولد أحمد الجلبي في 30 اكتوبر عام 1944 وفي فمه ملعقة من ذهب، في عائلة من اثرى العوائل الشيعية في العراق، وقد استوزر جده وابوه واخوه الكبير في حقب مختلفة من العهد الملكي، هربت عائلته من العراق بعد ثورة 14 يوليو 1958 خوفا من بطش السلطة الثورية الجديدة، برموز العهد الملكي، وهو لم يزل طالبا في الثانوية فاكملها في بريطانيا ثم اكمل دراسته الجامعية في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا (MIT) حاصلا على بكالوريوس الرياضيات عام 1961، واكمل دراسته العليا حاصلا على الدكتوراه في فلسفة الرياضيات من جامعة شيكاغو عام1969 ، ليعود إلى الشرق الاوسط اكاديميا في مجال تخصصه وليعمل استاذا في الجامعة الأمريكية في بيروت .
وعندما فكر في الزواج ارتبط بعائلة من اشهر العوائل الشيعية اللبنانية- عائلة عسيران- اذ اقترن بالسيدة ليلى ابنة عادل عسيران، الذي كان نائبا ثم رئيسا لمجلس النواب، كما شغل عدة حقائب وزارية في لبنان، ولأهمية العروسين وعلاقات عائلتيهما الاجتماعية بنخب المجتمع اللبناني، قام الإمام موسى الصدر بنفسه بعقد قران العروسين، ولكن قبل احتفالهما بالعرس اغتيل عبدالله عسيران نجل رئيس مجلس النواب وشقيق العروس في 1971، ما اوقف كل اجراءات الفرح. عاش الجلبي بعدها حياة هانئة مع زوجته التي كانت تتفهم معنى أن تساند زوجة السياسي زوجها وتقف معه في بناء مكانته السياسية والاجتماعية .
وربما اعتقد البعض أن أحمد الجلبي كان بعيدا عن الشأن السياسي العام، أو لم تكن له مشاركة واضحة وفاعلة، على الأقل في الشأن العراقي في حقبة السبعينيات، لكن الصحافي جوناثان راندل يشير في كتابه «أمة في شقاق.. دروب كردستان كلما سلكتها» إلى حادثة ربما لم يتنبه لها الباحثون، إذ يقول «عندما كان عمره ثلاثين عاما في 1974، كان أستاذا للرياضيات في الجامعة الامريكية في بيروت، أهم وأرقى جامعات الشرق الأوسط في وقتها، وربما حتى الآن، وعندما كان نائب عميد كلية الفنون والعلوم في الجامعة نفسها، استقل الدكتور احمد الجلبي طائرة إلى طهران كي يحذر المُلا مصطفى البرزاني من أن شاه إيران سيعقد صفقة برعاية أمريكية مع نظام البعث في العراق على حساب الأكراد، وقد هدد رئيس جهاز المخابرات الايرانية (السافاك) نعمة الله ناصري – التي كانت تراقب البارزاني- احمد الجلبي بالترحيل فورا إلى بيروت وإلا سيحدث ما لا يحمد عقباه». كما تجدر الاشارة إلى دور حميه عادل عسيران في زجه في الشأن العام، عندما اصطحبه معه إلى مؤتمر جنيف عام 1981، الذي عقد لمناقشة الازمة اللبنانية إبان الحرب الأهلية، وكان الجلبي قد حصل على الجنسية اللبنانية في هذه الفترة.
الجلبي من عائلة لها تاريخها الطويل في عالم التجارة والمال، لذلك ترك الحياة الاكاديمة وفتح مشروعه الخاص بمساندة زوجته في الأردن، وانتقل للعيش هناك مؤسسا بنك بترا، الذي اكتسح سوق المال الاردني، وحقق صفقات كبيرة يحلم بها اي مصرفي ناجح في العالم، وتوسع المشروع إلى عدد من البنوك الرديفة في لبنان والسودان وسويسرا والولايات المتحدة الامريكية، ما دفع بمراكز قوى اردنية إلى دعمه في أعماله، ربما كان أهمهم الامير الحسن بن طلال، ولكن الامر اثار عداوة جهات اردنية اخرى لينتهي به الامر في أغسطس 1989، بوضع البنك المركزي الأردني يده على بنك بترا الذي أشهر إفلاسه، وليهرب احمد الجلبي من الاردن في واقعة لم تزل موضع الكثير من الروايات والروايات المضادة، ولتحاكمه غيابيا محكمة أمن الدولة بتهمة تجارة الاسلحة والتلاعب بأموال المودعين والمغامرة غير المحسوبة وغير الأمينة التي جعلت البنك يخسر ملايين الدولارات.
متنقلا بين لندن ونيويورك وواشنطن ابتدأ الجلبي عقد التسعينيات، وقد دخل معمعة السياسية العراقية بعد احتلال صدام حسين للكويت، منظما إلى فصائل المعارضة بشخصه وجهوده فقط، فلم يكن يملك أو يمثل حزبا كما الآخرين المنضوين في احزاب لها تاريخها في معارضة النظام، كالحزب الشيوعي العراقي، أو حزب الدعوة الاسلامي، أو القوميين العرب أو جناح البعث السوري، دخل مضمار المعارضة طارحا شكلا جديدا لتيار سياسي يتبنى الفكر الليبرالي الغربي، محاولا تجميع المساندين من كل التيارات، ولأن الساحة السياسية العراقية لم تكن قد تعرفت على احزاب ليبرالية قوية ومؤثرة في ساحة المعارضة، لذا كانت مهمته صعبة وشاقة. لقد كان كل الفرقاء السياسين العراقيين يلفون ويدورون في ساحات المنـــافي، بحثا عن منفذ في الستار الحــــديدي الذي يسدله نظام صدام حسين على الداخل العراقي، بدون أن يجدوا اذنا صاغية من أحد، وبدون أن يحصلوا على دعم من جهة ما، إلا بعض الفتات الذي يلقى لهم هنا أو هناك من قبل الانظمة الاقليمية التي كانت تستعمل هذا الفصيل أو ذاك في مناوشاتها ضد نظام صدام حسين.
ابتدأ الجلبي مشروعه في محاولة خلق مظلة شاملة لكل فصائل المعارضة من اقصى اليمين إلى اقصى اليسار، وكان الهدف الجامع الوحيد بين هؤلاء الفرقاء هو اسقاط نظام صدام حسين، وأُطلق على التجمع المعارض اسم «المؤتمر الوطني العراقي» الذي لم يلبث طويلا حتى دب النزاع بين اطرافه نتيجة الميول العقائدية والاجندات الاقليمية التي تفرضها المنافي على الاحزاب، التي تعيش بين ظهرانيها، ليتحول المؤتمر الوطني إلى هيكل فارغ من الاحزاب ولا يضم سوى الافراد الملتفين حول الجلبي، ليصبح حزبا من احزاب المعارضة، وكل من عمل في هذه المرحلة قريبا من الجلبي يذكر دوره في محاولات حل أو تخفيف التوتر بين الشركاء، وبشكل خاص دوره في تسوية النزاع بين الحزبين الكرديين الكبيرين ابان نزاع عام 1996.
وانطلق مشروعه في محاولة الحصول على الدعم الامريكي في هذا الامر منذ بداية التسعينيات، وقد أيقن أن اسقاط نظام صدام حسين لن يتم الا عبر الدعم الخارجي، خصوصا بعدما شهد القمع الدموي للانتفاضة التي حصلت بعد حرب الخليج، وابتدأ العمل من خلال شبكة علاقاته الواسعة في عالم المال والسياسة في الولايات المتحدة الامريكية ، واتهم بالبراغماتية المفرطة، التي وصلت أحيانا إلى حد الميكافيلية التي تبرر كل الوسائل لاسقاط النظام، ومنها قربه الشديد من المحافظين الجدد وعلاقاته القوية بسناتورات مجموعة اللوبي الاسرائيلي (ايباك) واستغلال نفوذهم الضاغط في واشنطن، وتسهيل وصول المعلومات إلى المخابرات الامريكية التي تدين نظام صدام بامتلاكه أسلحة دمار شامل، لكن حتى في هذا الامر هنالك تضارب واشكالية، فتقرير لجنة تشاك روب ولورانس سيلفرمان في 2005 المقدم للكونغرس الامريكي ينص على أن الجلبي والمؤتمر الوطني لم يلعبا دورا مهما في الحوادث التي قادت إلى الحرب، وكذلك ينص تحديدا على أن إدارة بوش لم تعتمد كثيرا على المعلومات الاستخبارية التي قدمها الجلبي في اتخاذ قرار الحرب. لكن تقريرا آخر اصدرته لجنة الكونغرس لشؤون الاستخبارات في سبتمبر 2006 توصل إلى نتائج مثيرة للجدل، اذ يصرح التقرير نصا أن المخبرين الذين قدمهم الجلبي قدموا معلومات وفرت الأحكام النهائية في تقديرات الاستخبارات القومية التي سبقت تصويت مجلس الشيوخ على حرب العراق.. بأن لـصدام حسين مختبرات متنقلة للأسلحة البيولوجية وبأنه يسعى إلى إعادة بناء برنامجه النووي.
عاد الجلبي مع الجيش الامريكي إلى العراق في ابريل 2003 وكان احد الرجلين الاهم من الوجوه الجديدة في عراق ما بعد صدام حسين هو والدكتور اياد علاوي زعيم حركة الوفاق الوطني، وضمن الصراع بين اجنحة الادارة الامريكية بين الخارجية والدفاع كانت اسهم الجلبي هي الاعلى في البدء، عندما تم تعيين الجنرال المتقاعد جي غارنر، حاكما مدنيا للعراق، ولكن التغيير الذي حصل بانتصار جناح الخارجية والمخابرات في الادارة الامريكية بعد شهر من غزو العراق، والذي ادى إلى ازاحة جي غارنر واستبداله بالســــفير بول بريمر كحاكم مدني، أدى إلى صعود نجم علاوي وتراجع دور الجلبي، لتبدأ فترة الجفوة بينه وبين الامريكان، ولانه رجل تعلم لعبة السياسية العملية، وتعلم أنها فن الممكن واللعب بحسب معطيات الواقع السياسي، فقد تعاطى مع رؤية الامريكان السطحية لعراق مكون من ثلاث كتل، شيعة وسنة واكرادا، وهنا نرى الجلبي مستفيدا من تجربته اللبنانية وساعيا لخلــــق كتلة شيعية متراصة اسماها (البيت الشيعي) حاول أن يجمـــع فيها اغلب التيارات الشيعية المتصارعة مثل، المجلس الاعلـــى والدعـــوة والتيار الصدري، لذلك أطلق عليه خصومه بانه كان عراب الطائفية السياسية في العراق، وقد امتد نفوذه عبر المؤسسات والهيئات المستقلة مثل، هيئة اجتثاث البعث لتصفية خصومه السياسيين، ومع تصاعد نجم من جمعهم الجلبي بدأ نجمه هو بالأفول وأخذ دوره بالتواري بعدما سيطرت أحزاب الاسلام السياسي على السلطة، حتى اثار موته المفاجئ العديد من نظريات المؤامرة حول احتمالية تصفيته بسبب دوره في كشف العديد من قضايا الفساد التي تنخر مؤسسات الدولة بصفته رئيس اللجنة المالية في البرلمان، ولم يتوقف الجدل حتى عند دفنه ومكان قبره في الحضرة الكاظمية في بغداد، الذي اثار موجة جديدة من الشتم والاستهجان يقابلها مديح منقطع النظير من طرف آخر.