الكاتب : فاضل حسن شريف
عن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قال الله تعالى عن أمة “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ” إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” (البقرة 128) “ربنا واجعلنا مسلمَيْن” منقادين “لك و” اجعل “من ذرِّيتنا” أولادنا “أمة” جماعة “مسلمة لك” ومن للتبعيض وأتى به لتقدم قوله لا ينال عهدي الظالمين، “وأرنا” علِّمنا “مناسكنا” شرائع عبادتنا أو حجنا، “وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم” سألاه التوبة مع عصمتهما تواضعا وتعليما لذريتهما.
تكملة للحلقة السابقة عن المركز الاسترتيجي للدراسات الاسلامية التحديد المفاهيمي لمصطلحيّ الأمّة والمُواطَنة للسيد صادق عباس الموسوي: خصوصُ أهل العقيدة المشتركة: هنا يكون المُقوِّم الأساسُ هو رابطُ الدين، فكلُّ أهلِ شرعة هم أُمَّة مشتركة حتّى لو فُقِدَ عنصرُ اللغةِ أو المكان أو الزمان أو السلطة السياسيّة، فالمعتقدون بدينٍ واحد هم أهلُ أُمَّةٍ واحدةٍ حتّى لو أبعدتهُم المسافات أو باعد بينهم الزمان، أو فرَّقت بينهم اللغة. هنا تكون الأُمَّـة تعبيراً عن انتماءٍ عقيدِّي وتفتقر إلى الأُطر المؤسَّسيِّة التي تُعَّبر عن هذا الانتماء من خلال الدولة، هذا المجتمع المُكوَّن من ذوي عقيدةٍ مشتركةٍ يُمَّيزُه تضامنٌ عضوِّيٌ وإئتلافٌ وثيق، حيث يتمَّيزون بوحدة الفعل العبادي وأحاديّة النظرة المستقبليّة وفرادة الطرح العالمي. وكلّما كان الدين أشدُّ ولوجاً في نفسيِّة المتدينيّن كان الترابطُ أوثقاً فيما بينهم، وأينما شعروا بأنّهم أقليّة زاد تماسُكم العضويُّ المشترك. هذا التعبير وُجِد مع قيامِ الإسلام في فترة ما قبل الهجرة، حيث واجهَ المُسلِمون مشكلة الأقليم الذي يُمثِّل الوعاء الجغرافيّ لحركتهم، ويعبّرون فيه عن إرادتهم السياسيّة التي تسعى إلى تحويل الدّين الإسلامي إلى ممارسة حركيّة في أرضِ الواقع أي تحويل المبادِئ إلى ممارسة. ويُعبِّر الإمام علي (عليه السلام) عن هذا المعنى بقوله ( فإنّ الله قد امتَّنَ على جماعةِ هذه الأُمَّـة فيما عقدَ بينهم من حبلِ هذه الألفة التي يتنَّقلون في ظِلِّها ويأوونَ إلى كنفِها بنعمةٍ لا يعرفُ أحدٌ من المخلوقين لها قيمة. واعلموا أنَّكم صرتُم بعد الهجرةِ أعراباً وبعد الموالاةِ أحزاباً، ما تتعلَّقونَ من الإسلامِ إلا باسمهِ ولا تعرفونَ من الإيمان إلا رسمه)، وفي نصٍّ آخر (ولكنني آسى أن يليَ أمرُ هذه الأُمَّـة سفهاؤها وفجّارُها فيتخذوا مالَ الله دولاً وعبادَه خولاً). لقد عبَّر الإمام علي (عليه السلام) عن أكثر معاني مفردة الأُمَّـة إستعمَالاً وأقواها دلالةً، خاصّةً أنَّ النصَ القُرآنيَ قد أوجدَ هذا المعنى بشكل رئيس ـ سيأتي بيانه ـ كشكلٍ من أشكال تضامن أهل العقيدة وتماسكِهم في معنى واحد هو الأُمَّـة. ولو تتبّعنا نصوصَ التاريخِ الإسلامّي مع الأدباء والشعراء والفلاسفة وأهل الفقه والكلام والنُخَب والرموز لوجدنا أنّ هذا المعنى متّحدٌ مع المفهوم إلى حدّ الإلتصاق. ويستقرىء )حسين المرصيفي( (1890 م) استعمَالات كلمة الأُمَّـة، فيلحظ هذا المعنى قسماً من ثلاثة أقسام، يقول في رسالة الكَلِم الثمان: (أما الأُمَّـة بحسب الدّين فهم قوم اتَّبعوا نبيّاً والتزموا شريعته، ووقفوا عند حدودها فلم يتعَّدَوها ولم يخرج بهم تفرّق المذاهب، الذي هو من ضرورة اختلاف الأفهام وتفاوت الآراء إلى عداوةٍ تؤثِّر في مصالح دنياهم وتبعثُهم على القتال (فإذا كانوا كذلك لم يكونوا أُمَّةَ دينٍ وكان الدينُ بينهم إسماً ليس له مُسَّمى). هذا الاستقراء الذي قام به المرصيفي يدُّلُ على نظرةٍ عميقةٍ إلى المفهوم لسبرِ أغواره واللحوق بمضامينه بعد أن كثرت إستعمَالاته وتنوعّت، ما ولّد التباساً في كثير من متعلّقاته. ويعتبرُ المرصيفي أنَّ إستعمَاله في معنى الدّين أساسّي، لكّنه لم يحدِّده بالدين الإسلامي بل بمطلق أي دين أو عقيدة أو شريعة.
جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قال الله تعالى عن أمة “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” ﴿البقرة 128﴾ قال سبحانه: “ربنا واجعلنا مسلمين لك” أي قال ربنا واجعلنا مسلمين في مستقبل عمرنا كما جعلتنا مسلمين في ماضي عمرنا بأن توفقنا وتفعل بنا الألطاف التي تدعونا إلى الثبات على الإسلام ويجري ذلك مجرى أن يؤدب أحدنا ولده ويعرضه لذلك حتى صار أديبا فيجوز أن يقال جعل ولده أديبا وعكس ذلك إذا عرضه للبلاء والفساد جاز أن يقال جعله ظالما فاسدا وقيل أن معنى مسلمين موحدين مخلصين لك لا نعبد إلا إياك ولا ندعو ربا سواك وقيل قائمين بجميع شرائع الإسلام مطيعين لك لأن الإسلام هو الطاعة والانقياد والخضوع وترك الامتناع وقوله “ومن ذريتنا أمة مسلمة لك” أي واجعل من ذريتنا أي من أولادنا ومن للتبعيض وإنما خصا بعضهم لأنه تعالى أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من لا ينال عهده الظالمين لما يرتكبه من الظلم وقال السدي أراد بذلك العرب والصحيح الأول أمة مسلمة لك أي جماعة موحدة منقادة لك يعني أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدلالة قوله وابعث فيهم رسولا منهم وروي عن الصادق أن المراد بالأمة بنو هاشم خاصة وقوله ” وأرنا مناسكنا” أي عرفنا هذه المواضع التي تتعلق النسك بها لنفعله عندها ونقضي عباداتنا فيها على حد ما يقتضيه توفيقنا عليها قال قتادة فاراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من عرفات ومن جمع ورمي الجمار حتى أكمل بها الدين وقال عطاء ومجاهد معنى مناسكنا مذابحنا والأول أقوى وقوله “وتب علينا” فيه وجوه (أحدها) أنهما قالا هذه الكلمة على وجه التسبيح والتعبد والانقطاع إلى الله سبحانه ليقتدي بهما الناس فيها وهذا هو الصحيح (وثانيها) أنهما سألا التوبة على ظلمة ذريتهما (وثالثها) أن معناه ارجع إلينا بالمغفرة والرحمة وليس فيه دلالة على جواز الصغيرة عليهم أو ارتكاب القبيح منهم لأن الدلائل القاهرة قد دلت على أن الأنبياء معصومون منزهون عن الكبائر والصغائر وليس هنا موضع بسط الكلام في ذلك. ” إنك أنت التواب” أي القابل للتوبة من عظائم الذنوب وقيل الكثير القبول للتوبة مرة بعد أخرى ” الرحيم” بعباده المنعم عليهم بالنعم العظام وتكفير السيئات والآثام وفي هذه الآية دلالة على أنه يحسن الدعاء بما يعلم الداعي أنه يكون لا محالة لأنهما كانا عالمين بأنهما لا يقارفان الذنوب والآثام ولا يفارقان الدين والإسلام. والضمير في قوله ” فيهم” يرجع إلى الأمة المسلمة التي سأل الله إبراهيم أن يجعلهم من ذريته.
عن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قال الله تعالى عن أمة “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” ﴿البقرة 128﴾ “رَبَّنا واجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ”. المسلم، والمسلَّم، والمستسلم بمعنى واحد، وهو الذي يذعن وينقاد، والمراد به هنا من أخلص للَّه في عقيدته وأعماله، وليس من شك ان السعيد الحميد هو الذي يسلم للَّه جل وعز جميع أموره وشؤونه. “ومِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ” وقد استجاب اللَّه دعاءهما، وجعل في ذريتهما ملايين الملايين من المسلمين. الشيعة وأجداد النبي: اختص الشيعة من دون جميع الطوائف الاسلامية، اختصوا بالقول: ان آباء محمد وأجداده، وأمهاته وجداته كانوا جميعا موحدين، ما أشرك أحدهم باللَّه شيئا، وان محمدا منذ الخليقة كان ينتقل من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام المطهرة حتى ساعة ولادته صلى الله عليه واله. قال شيخ الشيعة الشهير بالمفيد في شرح عقائد الصدوق طبعة 1371 ه ص 67: (ان آباء النبي صلى الله عليه واله من أبيه إلى آدم كانوا موحدين على الإيمان باللَّه، وعليه إجماعنا. قال اللَّه تعالى مخاطبا نبيه محمدا: “وتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ” (الشعراء 219). وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه واله: ما زلت أتنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام المطهرات، حتى أخرجني اللَّه تعالى في عالمكم هذا. فدل قول النبي على ان آباءه كلهم كانوا مؤمنين، إذ لوكان بعضهم كافرا لما استحق الوصف بالطهارة، لقوله تعالى: “إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ”، فحكم على الكفار بالنجاسة، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه واله بطهارة آبائه كلهم ووصفهم بذلك دل على انهم كانوا مؤمنين). “وأَرِنا مَناسِكَنا”. أي علمنا مناسك الحج، وغيرها من العبادات. “وتُبْ عَلَيْنا”. وليس من الضروري أن يلازم طلب المغفرة وجود الذنب، بخاصة إذا كان الطلب من الأنبياء والأوصياء، لأن هؤلاء الكرام يرون أنفسهم مقصرين في حق اللَّه مهما اجتهدوا في العبادة للَّه، وأخلصوا لجلاله، لأنهم أدرى الناس بعظمته، وبأن عبادة الإنسان بالغة ما بلغت فلن تفي ببعض الحق لتلك العظمة التي لا بداية لها، ولا نهاية.
وعن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قال الله تعالى عن أمة “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” ﴿البقرة 128﴾ يتضرع إبراهيم وإسماعيل إلى ربّ العالمين بخمسة طلبات هامّة. وهذه الطلبات المقدّسة حين الإِشتغال بإعادة بناء الكعبة جامعة ودقيقة بحيث تشمل كل احتياجات الإِنسان المادية والمعنوية، وتفصح عن عظمة هذين النبيين الكبيرين. قالا أوّلا: “رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ”. ثم أضافا: “وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ”. وطلبا تفهم طريق العبادة: “وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا”،. ثم طلبا التوبة: “وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ”. الآية الأخيرة تضمنت الطلب الخامس، وهو هداية الذرية “رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم”.