نوفمبر 22, 2024
main-qimg-0963859e3174aefbf69f6ecd1c2a87d9-lq

اسم الكاتب : وليد يوسف عطو

يقول العربي ( في عبارته هجنة )بضم الهاء وتسكين الجيم ,وتعني اختلاط تعابيره بكلام غير فصيح .كذلك الامر ينطبق على الانساب حيث يصبح الشخص الذي ينحدراحد والديه من غير العرب هجينا ,او ( خسيس النسب )كما جاء في المعجم الوسيط وهي تهمة عنصرية بكل تاكيد , او يطلق عليه تعبير (اعجمي )وهي صفة للحيوان وهكذا تم اطلاق صفة الاعجمي لكل ماهو غير عربي وهم اغلبية الشعب العراقي . وجاء العثمانيون وكانوا في حالة نزاعات وحروب ضد الدولة الصفوية فتمت المطابقة بين الاعجمي والفارسي, رغم ان الصفويين ليسوا فرسا بل قبائل تركمانية سنية تم تحويلها بالقوة الى التشيع الاثني عشري من قبل الشاه اسماعيل الصفوي , وهكذا تم تحويل الشعب العرقي الى عجم فرس بجرة قلم واحدة .

ونفس الامر ينطبق على تهجين الثقافة حيث تختلط الثقافة المحلية بالثقافات الاخرى ومنها الثقافة الغربية.ان احدى مشكلات الحداثة في بلادنا هي عدم تراجع المثقفين عن تقديس التراث ومزواجتهم بين النقائض مثلا الربط في الثنائيات بين التراث والحداثة هذه الثنائيات تمثل دور الكابح والمعطل بوجه مشاريع الحداثة والتنوير . وهكذا تراجع فكر الحداثة الى الاصوليات بانواعها .

لم تكن العلاقة بين المثقفين العراقيين والغرب تقوم على الكتب فقط , بل كانت هنالك علاقة تربط المثقفين بالاجانب الذين قصدوا بغداد لغايات متعددة , من اساتذة جامعات ومستشرقين مثل المستشرق الفرنسي الدكتور لويس ماسينيون وكذلك علماء اثار وحتى جنود الحلفاءوالفنانين الذين قذفت بهم الحرب العالمية الثانية مثل الفنانين البولنديين مثل ماوتشيك وجابسكي وزيكونت وغيرهم وفنان انكليزي اسمه كنث وود .كانت اللقاءات مع هؤلاء لاتقتصر على المقاهي الحديثة وحدها , بل من خلال المناسبات الثقافية كالمعارض التشكيلية وحفلات الفرقة السيمفونية العراقية والتي تعزف الموسيقى الكلاسيكية وفرق اخرى عديدة .

ويظهر اسم (دزموند ستيوارت ) عند بلند الحيدري وجبرا ابراهيم جبرا . ودزموند هو شاعر وثائر بريطاني جاء الى العراق في نهاية الاربعينات كمحاضر في الجامعة وترجم اشعار السياب وبلند الحيدري والبياتي , وربطته صداقة مع عدد من المثقفين العراقيين .كما نجد اسم منقب الاثار الانثروبولوجي ( ماكس مالون )وزوجته الروائية الشهيرة اغاثا كريستي التي استوحت بعض قصصها من اجواء العراق .اضافة الى ارتياد المعهد البريطاني في ذلك الوقت .

وكانت نازك الملائكة واختها احسان من بين رواده.ان العلاقات بين المثقفين العراقيين والمركز الثقافي البريطاني والاجانب ظلت موضع تساؤل من قبل اليسار العراقي سواء في مقاطعتهم تلك الفعاليات او محاولة وصم من يرتادها او يتعامل معها بالعمالة .

قبل ان يشهد العراق قاعات للعروض الفنية ,شهدالمركز الثقافي البريطاني اربعة معارض ل ( جمعيةاصدقاء الفن )وهي اول تجمع للفنانين التشكيليين العراقيين .وكتب شاكر حسن آل سعيد عن دعم ورعاية المركز الثقافي البريطاني للفن التشكيلي وجمعية( اصدقاء الفن )مطلع الاربعينات قائلا :
(بعد ان لمست الجمعية من المركزالثقافي البريطاني تعاطفه لم يرفضوا ذلك,واستثمروا هذا التعاطف معهم اول الامر ,بيد انهم ظلوا حذرين فلم يربطوا مصيرهم بمصير المركز ابدا .لكن الفنانين العراقيين في الجمعية , والذين درسوا في لندن وهم عطا صبري وحافظ الدروبي واكرم شكري وجواد سليم , كانوا ملزمين بالاشتراك في معرض اقامها المركز لاسباب ادبية وثقافية , فعرضوا فيه اكثر من مرة ).

مثل هذه التوترات عاشها الكثير من المثقفين ونتج عنها ادب سمي ب( ادب مابعد الكولنيالية) . لقد ظهرت اشكالية المثقف او توتراته بين معاداته الغرب كمستعمر وتطلعه اليه كحضارة ,واستمرت الى اليوم, خصوصا بعد ان اصبح الغرب مكانا للهجرة والاقامة , وهي مانسميه بالهجنة وصراع القيم .

ان تهجين الثقافة جرى عبر فكرة الثنائيات القاتلة مثل ثنائية التراث والحداثة .الظاهرة اللافتة في ثقافة الاربعينات والخمسينات في العراق هو ثبات واستقرار وتنظيم انواعها , فهنالك حدود فاصلة بين الاجناس الكتابية والاعمال الفنية , وهنالك تناغم فيما بينها, ربما يعود الى طبيعة الحياة المدينية التي تمتع بها الكثير من منتجي الثقافة في العراق .

وعلى الرغم مما سببته الحرب العالمية الثانية من انقسام طبقي حاد في العراق وزيادة في معاناة الفقراء وشحة الغذاء وانتشار مايشبه المجاعات , غير ان الثقافة في العراق بدت خلال الحرب وبعدها في حراك استثنائي ,فنشا جيل المثقفين الذين اطلقوا على انفسهم تسمية (مثقفي مابعد الحرب العالمية الثانية)وهم الذين عدهم المؤرخون لاحقا روادا للثقافة.

وكانت ريادتهم قد تكونت من خلال تلك الفترة الانتقالية التي تميزت بديناميكية استثنائية على اكثر من صعيد, فكانت الحاضرة الثقافية الغربية تحتل جزءا من الذاكرة المحلية.
كان ابناءالاربعينات والخمسينات من ابناء الطبقة الوسطى ومثلوا في مشروعهم توق هذه الطبقة الى الظهور كقوة فاعلة ضد العشائرية والاقطاع والنزعات الدينية المحافظة .

وشهدت علاقتهم مع المجتمع قدرا من الاختلاف عن الذين سبقوهم من رواد النهضة الذين كانوا اقرب الى الناس في اسلوب حياتهم . ولعل انحدار بعضهم من العوائل الدينية لم تتح لهم فرصة التمايز الذي اختلف مفهومه في المجتمع العراقي الجديد , بعد ان تكونت علاقات عمل ترتبط بالتعليم العصري وصعود فئات جديدة في التراتبية الاجتماعية.

وشهدت فترة الاربعينات والخمسينات حضورا فاعلا للمراة العراقية سواء في التجمعات الثقافية او على مستوى الهيئات التعليمية والجامعات والمدارس .ومن رموز المراة الرسامة مديحة تحسين عمر اول من ادخلت الحروفية في اللوحة العراقية .وهنالك ايضا الرسامات نزيهة سليم وعالية القره غولي ولورنا سليم واخيرا سعاد العطار .وكانت ناهدة الحيدري من بين مؤسسي
( جمعية اصدقاء الفن ) واستطاعت ناهدة الحيدري الفوز بمنصب نائب رئيس الجمعية وروز ماري خياط بمنصب امانة الصندوق .
وسنجد انعكاس هذه الحالة في اعمال الفنانين واسلوب حياتهم الذي اقترب كثيرامن النمط الغربي , وساعد وجود الزوجات الغربيات للفنانين العراقيين وسعيهم الى الاختلاط بالمثقفين والفنانين والدبلوماسيين الغربيين على خلق مجتمع نخبة يتمتع بامتيازات الطبقة المرفهة , وهذا مانراه في يوميات جواد سليم.

لكن ذلك النموذج الحداثي لايعبر عن حقيقة المثقفين انفسهم , فلم يكونا نسيجا واحدا متشابها من حيث الامتيازات ولا من حيث طبيعة الافكار. فالفكر المساواتي كان من هواجس المثقفين , فبدا الامر وكان التوتربين الفكر واسلوب الحياة قد احدث شرخا في شخصية المثقف.

فالحداثة الوافدة التي تمتع بها بعض المثقفين , بحكم انتمائهم الى الطبقة الوسطى ,واماكن اللقاء التي بدت تكتسب طابعا حضاريا وبينها المقاهي التي ترتادها النساء والكاليريهات ونوادي الرياضة المختلطة والبيوتات والاماكن التي مارس فيها هؤلاء نشاطهم,كانت تعمق الهوة بين المثقف ومواضيعه التي اعتمدت على ماتعانيه الفئات الكادحة من هموم وفقر وامية.وسنجد ابرز توتر يظهر في الفصام الذي تعيشه شخصيته , بين التزامه بقضايا الناس , واغترابه عن اسلوب عيشهم , وتطلعه الى حياة حديثة قوامها الجمال والعمران الحديث والاهتمام باللغات الغربية والسفر.
المصدر:
فاطمة المحسن ( تمثلات الحداثة في ثقافة العراق )- ط 1 – 2015 – الناشر: منشورات الجمل –بغداد – بيروت .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *