اسم الكاتب : سلمان رشيد محمد الهلالي
النمط الوطني الثاني : 1921 – 1945 .
وتبلور هذا النمط على هامش تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 . وهو اول نمط وطني تفرضه الحكومة العراقية من خلال استخدام مقدرات الدولة الاعلامية والمالية والتعليمية والعسكرية , واستند الى الايديولوجية القومية العربية كاساس عقائدي وعمق استراتيجي للاقلية السنية الحاكمة في البلاد , والارتكاز على المحيط العربي الكبير في مواجهة الاغلبية العربية الشيعية التي اتخذت صف المعارضة للحكومة العراقية بعد اعلانها الموافقة على المعاهدة العراقية – البريطانية عام 1922 التي رسخت واكدت سلطة الانتداب البريطاني , ومن ثم انعدام الاستقلال الحقيقي والتمثيل المتوازن والعادل لفئات المجتمع العراقي , فاشاعت الحكومة من خلال كتابها واتباعها وصحفها بان من وقف ضد انتخابات المجلس التاسيي – الذي سيقوم بالمصادقة على المعاهدة – وحرم المشاركة فيها من رجال الدين ومراجع الحوزة العلمية عام 1923 في النجف والكاظمية , انما فعل ذلك لاسباب طائفية واجنبية وليست دوافع وطنية , واستندت في هذه التصرفات الحكومية الى الدعم الانكليزي الذي اراد الترويج للمفهوم القومي العربي في بداية تاسيس الدولة العراقية لمواجهة عقبتين :
الاولى : مواجهة الاتراك والميول العثمانية عند اهل السنة في العراق وخاصة طبقة الافندية منهم الذين كانوا يمثلون طليعة المثقفين والاداريين , والخوف من النجاحات التي حققها اتاتورك من ان تشكل انبعاثا جديدا للعثمانية .
الثاني : مواجهة النمط الوطني العراقي الثوري الاول (المؤسس) الذي يشكل الشيعة دعامته الاساسية والمنادي بالاستقلال التام والديمقراطية الحقيقية .
وقد اتحدت النخبة الملكية الحاكمة والضباط المنشقين عن الدولة العثمانية المعروفين بالضباط (الشريفيين) الذين تسلموا اغلب مقاليد الادارة والحكم في مواجهة النمط الوطني الثوري من اجل الحفاظ على صيغة المعادلة الطائفية الحاكمة منذ قرون اولا , والاستحواذ على مقدرات الدولة ومناصبها ومراكزها الرفيعة ثانيا , وذكر الكاتب الامريكي اريك دافيس في كتابه (مذكرات دولة ) (ان سبب تبني الملك فيصل الاول والضباط الشريفين المنشقين عن الدولة العثمانية للقومية العربية هو لانهم ليسوا من اصول عراقية ولم يتبنوا المنهج الوطني العراقي). ويعد المنظر القومي – التركي الاصل – ساطع الحصري من ابرز المروجين لهذا النمط الوطني /القومي في مواجهة الحركة الوطنية والاستقلالية المناوئة لصيغة التاسيس الحكومية والسلطوية تحت الرعاية او الوصاية البريطانية , فقد اعترف في مذكراته بالتحالف والتنسيق مع المستشارين الانكليز في مواجهة تلك الحركة والترويج للقومية العربية . وكانت من اهم الاسس والمفاهيم التي التي رسخها هذا النمط الوطني /القومي على الاغلبية العربية الشيعية المعارضة هو (العجمة) وتعني الاصول الاجنبية او الفارسية لنسبهم , واعتبارهم طارئين او وافدين على البلاد من اماكن اخرى يحددونها بحسب طبيعة الصراع . واعتمدوا في ذلك على استثارة مااطلق عليه ميشيل فوكو تسمية (المتخيل)وهو كل شيىء تشكل او تراكم عبر التاريخ في الذاكرة وقابل للاستثارة باي وقت , وقد استطاع هذا النمط الوطني /القومي استثارة المتخيل العثماني ضد الفرس الذي تبلور او تاسس اثناء مرحلة الصراع العثماني – الصفوي واعادة بعثه من جديد , مستحظرا الموروثات والاساطير التاريخية واسقاطها على الواقع , فالنظام المعرفي والانماط العليا او الاصلية – بحسب يونغ – عند السنة العراقيين يرتكز على اسس وركائز صلدة من الميول والذهنية العثمانية , تحمل في طياتها تلك الاسقاطات والانبعاثات التاريخية والطائفية , تمظهرت خلال هذه الفترة في ممارسات وسلوكيات ابرزها حادثة المدرس السوري انيس زكريا النصولي وكتابه (الدولة الاموية في الشام) عام 1927 وكتاب عبد الرزاق الحصان العاني (العروبة في الميزان) عام 1933 اللذين شنا هجوما على الاغلبية العربية الشيعية في العراق والمتبنيات الدينية والطقوسية التي يعتقدون بها , وعبرا عاما يجول في خاطر الطبقة الحاكمة ذات الجذور والميول العثمانية من اراء وتوجهات , ولاحاجة الى القول ان هذا النمط الوطني /القومي الاقصائي قد جرى بعثه واعادة احيائه لاحقا في النمط القومي الرابع بين عامي 1963 – 2003 كما سنرى .
وقد ظهر بمواجهة هذا النمط الثاني الوطني / القومي او الحكومي والسلطوي احزابا وشخصيات وجمعيات من بقايا النمط الوطني الاستقلالي الاول , اتخذ صيغة وطنية عراقية معارضة للتوجهات الحكومية الاقصائية , وكان على راسها الحزب الوطني العراقي (اول الاحزاب السياسية في الدولة العراقية ) الذي راسه محمد جعفر ابو التمن , هو شخصية شيعية متنفذه اجتماعيا وماليا , وصف بانه (ابو الوطنية العراقية) , فيما وصف حزبه ايضا بانه (ابو الاحزاب الوطنية) نتيجة لمولقفه الاستقلالية المناوئة لسلطات الانتداب البريطاني , وخروج العديد من اهم التوجهات السياسية العراقية التي وصفت تاريخيا بالوطنية من مدرسته وهى ( جمعية النهضة العراقية وجماعة الاهالي الليبرالية والحزب الشيوعي العراقي وجمعية الاصلاح الشعبي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال العراقي) . وقد اشاعت السلطات الحاكمة ان هذه الجمعيات والشخصيات والاحزاب ذات توجهات فوضوية وعبثية ولها ارتباطات خارجية , واعتبرت من خلال اعلامها وكتابها وصحفها ان الضباط الشريفيين الذين تسلموا رئاسة اغلب وزارات العهد الملكي , وغيرهم ممن تسنم المناصب العليا الاخرى , هم الوطنيين والحريصيين على مصلحة البلد , امثال نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وعبد المحسن السعدون وناجي شوكت وطه الهاشمي وعلي جودة الايوبي وارشد العمري وغيرهم . الا ان هذا النمط الوطني لم يستمر طويلا اذ سرعان ماازاحه عن الساحة نمطا وطنيا جديدا تبلور بعد الحرب العالمية الثانية , اعتبر تلك الشخصيات التي احتكرت مفهوم الوطنية في البلاد بفضل مقدرات الدولة سابقا الى (خونة ) وعملاء للانكليز او الاجنبي .
النمط الوطني الثالث 1945 – 1963 .
ونستطيع ان نطلق على هذا النمط من الوطنية العراقية تسمية (الوطنية المؤدلجة) التي تتبع نسقا فكريا ايديولوجيا محددا , وتطلق على الاحزاب والشخصيات السياسية المعارضة لنظام الحكم الملكي من اصحاب التوجهات الثورية والراديكالية واليسارية من قبيل الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب , او تطلق في حالات اخرى معينة على الاحزاب والشخصيات غير الثورية او اليسارية المعارضة من قبيل الحزب الوطني الديمقراطي الذي يراسه كامل الجادرجي وحزب الاستقلال العراقي الذي يراسه محمد مهدي كبة وحزب الاتحاد الوطني الذي يراسه عبد الفتاح ابراهيم وحزب الاحرار الذي يراسه عزيز شريف , ويبدو ان سمة المعارضة لنظام الحكم الملكي او الحكومات التابعة له هو القاسم المشترك الذي يوحد هذا النمط من الوطنية المؤدلجة , والدليل هو عدم اطلاقها على الاحزاب التي تسلمت قياداتها مناصب عليا في الدولة امثال حزب الاتحاد الدستوري وزعيمه نوري السعيد وحزب الامة الاشتراكي وزعيمه صالح جبر وحزب الاحرار وزعيمه توفيق السويدي وحزب الجبهة الشعبية وزعيمه طه الهاشمي .
وقد تبلور هذا النمط الوطني بعد الحرب العالمية الثانية كنتيجة لتداعيات دولية واقليمية شهدها العالم والمنطقة . فعلى المستوى الدولي , شهدت هذه المرحلة قيام او اندلاع الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي الاشتراكي والمعسكر الغربي الليبرالي او الراسمالي , وقد انحازت اغلب المجتمعات في دول العالم الثالث – وخاصة العربية – والنخب المتعلمة والمثقفة التي كانت تشكل طليعة الانتلجنسيا فيها الى المعسكر الشرقي والاشتراكي الذي كان يرفع الشعارات اليوتوبية والعصابية كالعدالة والمساواة بين الفقراء والاغنياء والتحرر من الاستعمار ومواجهة الغرب وغيرها . واصبح الفرد الوطني هو من ينحاز الى هذا المعسكر والتماهي معه والدفاع عنه , رغم الانظمة الاستبدادية والديكتاتورية والشمولية التي تحكم جميع دول ومجتمعات المعسكر الاشتراكي , بل وصل الحال ان طالبوا بان تكون انظمتهم السياسية شبيه بتلك الانظمة الاستبدادية , ويبدو ان الاصول الاجتماعية الريفية والفقيرة الذي ترجع اليه اغلب الانتلجنسيا العربية والعراقية , كان العامل الابرز في انجذابها نحو هذا المعسكر الذي ازاح الاغنياء والبرجوازية من صدارة المشهد السياسي والاجتماعي وجعلهم في موضع الاستهداف والتهميش . فيما حصل على المستوى الاقليمي حدثين بارزين ايضا , الاول قيام دولة اسرائيل واعلانها عام 1948 في فلسطين , وتحميلها مسؤلية اللاجئين والتوترات والصدامات المسلحة بين العرب واليهود هناك , وبما ان الذهنية العراقية والعربية كانت تحمل في نظامها المعرفي او في بنيتها الاصلية انماطا وصورا من (المتخيل) ضد اليهود الذي تراكم عبر التاريخ والتراث الديني الاسلامي , فكان من السهولة بمكان استحضاره وانبعاثه كنوعا من المكبوت , ومن ثم انقياد العامة من الناس والانتلجنسيا العراقية الى اتون الصراع والاحتراب مع اسرائيل , واصبح الانسان الوطني هو من ياخذ البكاء والنحيب على فلسطين , واصبح التعبير عن ذلك في الادب والثقافة بصورة عامة هو السمة السائدة انذاك عند المثقفين والوطنيين العراقين (ويذكرون بهذا الصدد ان الشاعرة نازك الملائكة اهدى لها زوجها عبد الهادي محبوبة مجسما يمثل خريطة فلسطين , فاخذت بالبكاء والنحيب وكتبت قصيدة مؤثرة جدا بهذا الشان) . والثاني هو اندلاع الثورة المصرية عام 1952 وماصاحبها من انتشار المد الثوي والعصابي ضد الغرب , لاسيما بعد الازمات والصدامات المتتالية التي قام بها الزعيم جمال عبد الناصر ودعواته الشعبوية وقراراته الاشتراكية وخطاباته الحماسية والثورية التي كانت تشكل مركز انبهار واعجاب عند المثقفين والمتعلمين من جانب , والناس البسطاء والعامة من جانب اخر , لذا كان من الطبيعي ان يحدث تحولا في النمط الوطني نحو الافراد والسياسين الذين يتبنون هذه المنهج وهذه السلوكيات والخطابات والممارسات الثورية , وبما ان رجالات العهد الملكي من رؤساء الوزراء والوزراء من اصحاب التوجه شبه الليبرالي كان مواليا ومنحازا كليا للمعسكر الغربي والراسمالي , فقد اعتبرهم العراقيون اناسا غير وطنيين وموالين للغرب , فقد تراجعت المنزلة الوطنية للسياسيين العراقيين المتصدين للمسؤلية في العهد الملكي , فبعد ان احتكروا مفهوم الوطنية بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 رجالا امثال نوري السعيد وطه الهاشمي والعمري والسويدي وشوكت وغيرهم , تحولوا – بقدرة قادر – بعد الحرب العالمية الثانية الى عملاء للاستعماروخونة , واصبحت الشتائم والتشوية تلاحق اسمائهم وتاريخهم في المنشورات والصحف الحزبية المعارضة , وكانت اغلب تلك الممارسات تحصل بفضل الدعاية المركزة التي كانت تبثها او تطلقها اذاعة (صوت العرب) من القاهرة , والاشاعات التي تروج لها الاحزاب الثورية واليسارية والمعارضة في العراق , من خلال قنواتها التنظيمية والاعلامية الخاصة بها والمنتشرة على طول مساحة البلاد وعرضها , واصبحت المفردة السحرية (الوطني) او (الوطنية) تطلق على مؤسسي واعضاء ومؤيدي تلك الاحزاب حصرا او الشخصيات المستقلة حزبيا , ولكنها تحمل ذات التوجه الايديولوجي والثوري واليساري المعارض لنظام الحكم الملكي , وان افضل انعكاس لهذا التوجه او النمط الوطني المؤدلج هو الكتابات والبيانات التي يصدرها زعيم الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف المعروف ب (فهد) , حيث ان مفردة الوطنية تتكرر كثيرا في كتاباته ويقصد بها ماقلناه سابقا , الاحزاب والشخصيات الثورية التقدمية المعارضة لنظام العهد الملكي , حتى انه رفع عبارة (قووا حزبكم … قووا الحركة الوطنية ) كشعار للمؤتمر الحزبي الذي عقد بعد الحرب العالمية الثانية , ويذكر احد الكتاب قصة طريفه حدثت في مطلع الخمسينات تعبر عن هذا المفهوم الوطني ابلغ تعبير , وتعكس مدى انتشاره في الوسط الاجتماعي , وهى ان ضابطا في احدى مراكز الشرطة في بغداد سمع اصوات هتاف وضجيج في الشارع , فسال احد الشرطة عن ماهية هذا الصوت ؟ فقال له : سيدي ذولة الوطنيين عدهم تظاهرة , فنهره الضابط بصوت عال : اسكت , اذا ذولة وطنيين لعد احنة شنو ؟ كواوييد !!!
ولكن على الرغم من الضجيج والحماس الذي تميز به هذا النمط الايديولوجي والشعبوي في العراق , سيما التظاهرات والاحتجاجات التي كان يقوم بها الطلبة والشباب وغيرهم ضد السلطة الحاكمة , والتي وصفت بالوطنية امثال تظاهرات عام 1948 المسماة بالوثبة واحتجاجات عام 1952 واعتصامات ازمة السويس عام 1956 , الا ان حنا بطاطو ذكر ان الفكرة الوطنية لاتزال ضعيفة جدا عندالعراقيين في العام 1958 وهى لاتزال حتى الان ابعد عن فهم جماهير الفلاحين . ويبدو ان بطاطو يقصد التوحد الاجتماعي الوطني الجامع بين العراقيين , وليس المفهوم السياسي الشائع الذي يتغنى به المثقفون والمتعلمون في الساحات والمدارس والشوارع العامة .