اسم الكاتب : سليم مطر
العرب:اصلهم وتاريخهم.. من اجل فهم جديد، واقعي وانساني..
سليم مطر ـ جنيف
((ليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلّم بالعربية، فهو عربي)).
((علم الانساب: هذا علم لا ينفع وجهالة لا تضر))
هذه الاقوال المعروفة، التي تنسب الى الرسول، مهما كان قائلها، فأنها تعبير تاريخي بليغ عن ادراك شعوبنا لحقيقة انتمائها، ليس للعرق النقي الوهمي، بل الى (اللغة والثقافة) بما تعني من حياة مشتركة وعقيدة وعواطف ومصالح، الخ..([1])
ان هذا الفهم (اللغوي الانساني) المعاكس لـ(الفهم العرقي الجيني العنصري)، ينطبق على جميع اقوام الارض وليس (العرب) وحدهم. فمكتشفات الجينات الوراثية في السنوات الاخيرة، اثبتت انه لا توجد اية (جماعة اقوامية ولا حتى قبيلة كبيرة) في العالم اجمع(غير مختلطة الجينات واصول الاجداد).([2])
(( نحن لا ندعي بأن (اللغة) وحدها هي اساس تكون الشعوب والاقوام، بل يجب ان تتوفر عوامل اخرى اساسية، اهمها:(التجانس الجغرافي). نحن نبتغي من موضوعنا هذا خصوصا: دحض الفكرة العرقية الجينية والاجداد الاوائل. دراستنا القادمة ستفصل هذه الاشكالية)).
ـ حتى ابناء عمومتنا اليهود، رغم انغلاقهم الديني والتزاوجي، فأن البحوث الجينية الاخيرة قد اثبتت بأنهم من اجداد مختلفي الاصول: شامية ومغاربية واوربية، وغيرها..([3]).
لكن رغم هذه الحقائق الساطعة، لا زالت حتى الآن تسيطر على غالبية (العرب) و(خصوم العرب) هذه الفكرة العرقية العنصرية عن (نقاء الاصل القومي العرقي، وحكاية الاجداد الاوائل: قحطان وعدنان ويعرب.. والعرب العاربة والمستعربة..الخ). (عاين مثلا كيف فندها مؤرخنا “جواد الطاهر” واعتبرها اختراع بعد الاسلام بتأثير التورات، وتبريرا للصراعات السياسية..)[4]
وان هذا الفهم القومي العنصري، يغذيه طرفان متناقضان:
1ـ (العروبيون) الذين يجهدون لاثبات بأن(جيناتهم) قحطانية، يمانية، قيسية.. الخ؟؟!!!
2ـ (خصوم العرب) الذين يجهدون الى اثبات بأن “جينات” غالبية اقوامهم وشعوبهم “غير عربية”: بربرية، سومرية، آرية، فرعونية.. الخ..)، وبالتالي يحق لهم التفاخر بأنهم “سكان البلاد الاصليين” وان اخوتهم في الوطن (العرب)، هم “اجانب غزاة!! هكذا بنفس العقلية العنصرية التي تم فيها حرمان الفلسطينيين من بلادهم؟!!
اصول الاقوام والجماعات الكبرى
ان أية جماعة كبيرة: قبيلة، قومية، شعب، اشبه بـ(الجماعات الدينية او الاحزاب الكبيرة)، فعبر التاريخ قد انتمت اليها وحملت اسمها العديد من الجماعات والافراد من مختلف الأصول والاقاليم، لاسباب عقائدية ومصالحية ومصاهرات وتحالفات… الخ..
وكما يحصل للجماعات الدينية والحزبية، بعضها يبقى صغيرا ضعيفا او ينقرض، وبعضها يتنامى عدد انصاره وحاملي اسمه ودوره العقائدي والسياسي، كذلك حال الجماعات الاقوامية: بعضها قد انقرضت ولم يذكرها حتى التاريخ، وبعضها بقيت صغيرة محدودة الدور، وبعضها قد توسعت وكثر المنتمين اليها وانتشر اسمها وثقافتها وشكّلت دولا وامبراطوريات.
إذن، حتى لو افترضنا باننا تمكنا فعلا من معرفة(هوية الاشخاص الاصليين الاوائل) الذين شكلوا الجماعة الكبيرة، فانه من المستحيل ومن المضحك اعتبارهم (اجداد) جميع “الاعضاء الحاليين” الذي يحملون “اسم الجماعة”. كما لو نقول بأن جميع “الشيوعيين” هم احفاد “ماركس ولينين”، وان جميع العروبين هم احفاد”عبد الناصر والحصري وعفلق، او ان جميع (البوذيين) هم احفاد(بوذا).. الخ”!
اصل العرب وتاريخهم؟!
ماذ يبقى لدينا إذن امام هذه “الاستحالة العرقية الجينية” لمعرفة (الاصل الاول) لأية جماعة اقوامية؟!
لقد بقيت لدينا هذه المجالات الواقعية والمعقولة:
1ـ مرحلة ظهور اسم الجماعة ومدى انتشاره، 2ـ مرحلة ظهور لغتهم ومدى انتشارها، 3ـ مرحلة ظهور دورهم السياسي ، الثقافي، الديني.. الخ. 4ـ مرحلة توسعهم السياسي والثقافي وحمل اسمهم ولغتهم من قبل اقوام عدة.
على هذا الاساس يمكننا تقسيم تاريخ(العرب) الى المراحل التالية:
اولاـ مرحلة ظهور اسمهم:(عرب). ثانياـ مرحلة تنامي ذكرهم ودورهم في المنطقة. ثالثاـ مرحلة ظهور الاسلام واتمام التشكل اللغوي مع القرآن. رابعاـ مرحلة تأسيسهم الدول الكبرى وانتشار العربية والتعريب.
اولا ـ مرحلة التأسيس وظهور اسمهم
من المتفق عليه ان المرة الاولى التي تم فيها ذكر اسم (العرب: عربو) تعود الى وثيقة الملك الآشوري شلمنصر الثالث 858 ـ 824 ق م عن (معركة قروقور) في سوريا(قرب حما. ويذكر فيها اسماء قادة جيوش خصومه في سوريا(قرب حما)، وفيها العبارة التالية:
أرسل الملك جندبو ملك العرب 1000 فارس “جمال”.
ونفهم بأنهم في حلف وتداخل مع قبائل آرامية وعبرية وغيرها، منتشرة في بوادي العراق والشام، وكذلك استخدامهم للجمال.([5]) ثم تكرر اسم(عرب) في عدة وثائق (نهرينية: آشورية وبابلية). وقد استمرت هذه المرحلة التأسيسة الغامضة عدة قرون..
(نصب كورح)، وفيه سجل الملك شلم نصر، اخبار حملاته ومنها (معركة قرقور).
ثانيا ـ مرحلة تشكلهم السياسي الدولتي
بعد الميلاد بدات تتكون دويلات في العراق والشام تحمل اسم (العرب)، مثل:( البتراء، والحضر، وبصرى، والحيرة..). لكن، وهذا مهم جدا معرفته: رغم ان هذه الدوليات حملت اسم(العرب)، لكنها لم تبلغ مرحلة (الكتابة والتعبير بالعربية)، بل دونت ونطقت بـ(الآرامية: السريانية)، ثم بـ(النبطية) في الشام والعراق. واقدم ما عثر عليه هو:(نقش النمارة) بالنبطية في سوريا، ويعود الى القرن الرابع م. علما بأن (النبطية) هي مزيج من الآرامية والعربية، اي المرحلة التي مهدت لتكوين (العربية)([6])
(نقش النمارة) على شاهدة قبر (امرو قيشو: امروء القيس: 328م) في سوريا، مع توضيح للنص النبطي(خليط عربي آرامي)
اما دول الجزيرة: (السبئية والمعينية والحميرية واللحيانية وكندة..) فهي غير واضحة بالانتماء الى اسم(العرب)، ولا لغتهم عربية بصورة واضحة، بل هي (سامية جنوبية) مختلفة، وخطهم المسند بعيد عن العربية: (عاين نقش معيني).[7] وقد يصح القول بأن اللغات الكنعانية والاكدية ثم الآرامية اقرب الى العربية.
ربما هذا يدل على ان (جذور ظهور العرب واسمهم) تعود الى الشام والعراق، وان دخول اهل اليمن والجزيرة العربية في (“حزب” العرب واسمهم ولغتهم) قد حصل بالتدريج حتى الفترة الاسلامية.
نقش بخط المسند على شاهدة قبر(عجل بن هفعم) حوال القرن الاول م، من جنوب السعودية
ثالثاـ مرحلة ظهور الاسلام واتمام تشكلهم اللغوي مع القرآن
لقد احتاج التاريخ كي تظهر( العربية نطقا وكتابة) الى حوالي 1400 عام(بين 800 ق.م حتى 600 م) منذ اول ظهور لاسم (العرب)، ثم (تشكل دويلاتهم)، ثم اخيرا “ظهور الاسلام والقرآن ” الذي كان تعبيرا عن ذروة تشكلهم الواضح كـ(قومية) بلغة وكتابة ثقافة متميزة. طبعا خلال تلك القرون الطويلة، هنالك ما لا يحصى من الجماعات والاقوام المختلفة البعيدة والقريبة قد انصهرت لمختلف الاسباب في اسم(العرب)، اشبه بالانتماء الى دين نشط او الى حزب كبير.
نعم (اللغة العربية) مثل جميع اللغات الاصيلة العريقة، اساسها بدائي بدوي شفاهي”سامي ـ حامي” قديم جدا، لكنها خلال 1400 عام من (الحرية الشفاهية) سمحت لها بالانفتاح وتقبل التأثر بالعديد من اللغات، كي تصبح اخيرا، عند مرحلة القرآن والتدوين، ناضجة زاهية اشبه(بالبستان الغني بثماره)، ومن بين اكثر لغات العالم ثراءا وطوعية وجمالا.
وكعادة جميع “القوميات الصاعدة” صنع العرب “اساطيرهم التأسيسية” عن الاصول القديمة والانحدار من اجداد مشتركين وانبياء مقدسين، متأثير بحكايات المنطقة وخصوصا (المسيحية)و(اليهودية). أما (المعلقات السبعة) التي من المفترض انها مكتوبة في مكة في (فترة الجاهلية؟؟!!)، فأنها بالحقيقة قد دونت في العصر العباسي([8]).
رابعاـ مرحلة تأسيسهم دولهم الكبرى وانتشار العربية والتعريب
وهي المرحلة التي تمكن فيها (العرب) من تكوين امبراطوريتهم(الاموية) ثم (العباسية) و(الاندلسية)، ونشرهم لغتهم(القرآنية) وعقيدتهم الاسلامية. ومما ساعدهم على نجاحهم الللغوي والثقافي والديني، انهم بداوا (عصر التدوين) واصدار الكتب في القرن الهجري الثاني مع الدولة العباسية في العراق.
ومن الطبيعي جدا، ان عمليات(التعريب) وانتماء الغالبية من السكان الاصليين في شرق المتوسط (العالم العربي الحالي) الى(العرب) حصل بتأثيرعوامل عديدة: جغرافية وتاريخية وثقافية ودينية. أي ان(عملية التعريب) لم تكن نتاج الفتح فحسب، بل هي نتاج تراكم آلاف الاعوام سابقة، من التمازج بين شعوب وقبائل هذه السهول والبوادي الممتدة بين ضفاف الخليج وبحر العرب والبحر المتوسط حتى ضفاف الاطلسي.([9])
ـــــ
دراستنا الحالية قد سبقتها دراسة تمهيدية تساعد اكثر على فهم الموضوع:
كيف تكونت القوميات والشعوب
دراستنا القادمة بعنوان: ما الفرق بين” تاريخ العرب” و”تاريخ العالم العربي”، وهي تتمة لدراستنا الحالية
المصادر: