
رياض سعد
منذُ نعومة أظفاره، يبدأ الإنسان في تشكيل رؤيته للعالم عبر تفاعلاته الأولى مع أقرانه وتعامله مع اترابه ، حيث تُشكِّلُ تلك اللحظاتُ البريئةُ بذورَ تجاربه الوجودية مع المجتمع… ؛ ففي أحضان اللعب الجماعي تَنْبُتُ أولى خيوط العلاقات الإنسانية، وتُطْبَعُ في أعماق النفس سِماتٌ قد تَظلُّ كامنةً في اللاوعي، لتكونَ المحرِّكَ الخفيَّ لسلوكياته المستقبلية… ؛ فالطفلُ هنا ليس مجردَ كائنٍ يلهو، بل هو كيانٌ يَبنِي عوالمَه من خلال احتكاكه بالآخر، تُشرَبُ روحُه دفءَ الانتماء إلى الهوية الجمعية، أو تُخْنَقُ بِوَخْزَةِ العزلة والاغتراب.
الطفولة : بين التآلف والتنافر
في المرحلة الأولى، يَغْمُرُ الطفلَ شعورٌ بالسعادة حين يجد رفاقًا يَتقاسَمون معه لحظاتِ الفرح : هذا يُهديه حلوى، وذاك يُشاركه لعبةً، وثالثٌ يُعبِّرُ عن حنانه بِقُبلةٍ دافئة… ؛ هنا تُولَدُ فطرةُ التَّوق إلى “الجماعة”، ويَتَشَكَّلُ الإدراكُ الغريزيُّ لـ”ضرورة الانتماء”… ؛ لكنَّ هذه الصورةَ الورديةَ لا تَخلو من شوائب ؛ فسرعان ما يَصطدمُ الطفلُ بوجوهٍ أخرى للتفاعل الاجتماعي: أقرانٌ مُشاكِسون يَتَفنَّنون في إثارة الخصومات، أو توجيه الإهانات، أو استغلال الفروقات الجسدية (كالقصر أو الطول او غيرهما من السمات الجسدية والشخصية ) للتنمر و لِنَبْذِ مَن يختلف عنهم… ؛ وهكذا تَتحوَّلُ ساحةُ اللعب إلى ميدانٍ لـ”الحروب المصغَّرة”، حيث تُستَخدمُ الكلماتُ النابيةُ سهامًا، وتُصبحُ السخريةُ سلاحًا لترسيخ التراتُبيات الاجتماعية!
صراخٌ في وجه الصَّمَم : عجزُ الكبار عن فكِّ الشفرات
عندما يَلْجَأُ الطفلُ الضحيةُ إلى الكبار (والديه، مُعلِّميه، جيرانه)، مُحاولًا ترجمةَ ألمه إلى شكوى ملموسة، يُصادفُ -غالبًا- ردودَ فعلٍ مُحبِطةً تَختزلُ معاناتَه في مقولاتٍ جاهزة: “هذه لَعِبَةُ أطفال”، أو “ستكبرون وتنسَون!”… ؛ لكنَّ المُفارقةَ الساخرةَ هنا أن الكبارَ أنفسَهم يَعجزون عن نسيان خلافاتهم أو تجاوز أحقادهم، فكيف يَطلبون من الطفلِ أن يَمحوَ ندوبَ روحه بكلمةٍ عابرة؟!
إنها “المُفارقةُ الوجودية” التي تُعمِّقُ جرحَ الوحدة : فالمجتمعُ يَفرضُ على الصغيرِ قواعدَ لا يَستطيعُ الكبارُ تطبيقَها، وكأنَّ الطفولةَ مُجرَّدُ مرحلةٍ انتقاليةٍ لا تستحقُّ التَّأهيلَ النفسيَّ!
المأزقُ الوجوديُّ: بين سندان العزلة ومطرقة الاضطرار
يُواجَهُ الطفلُ هنا بِمُعضلةٍ فلسفيةٍ مُبكِّرة: إمَّا أن يَختارَ العزلةَ هربًا من الإيذاء، فيُحاصَرُ بِوَصْمَةِ “المنعزل الغريب”، وإمَّا أن يَستسلمَ لعلاقاتٍ سامَّةٍ تحت ذريعة “الضرورة الاجتماعية”… ؛ لكنَّ الهروبَ ذاته ليس حلًّا؛ فالمُتنمِّرون يَطاردونه في فضاءات الحياة كافَّةً (المدرسة، الحي، الأسواق , الشارع )، وكأنَّ المجتمعَ يُعيدُ إنتاجَ صراعاته بطريقةٍ دائريةٍ لا مَفرَّ منها… ؛ و هكذا تَتشابكُ خيوطُ الأزمة … ؛ مُشكِّلةً نواةَ صراعاتٍ نفسيةٍ تَستقرُّ في الأعماق، كألغامٍ قابلة للانفجار في أيِّ مرحلةٍ لاحقة.
الطفولةُ كمختبرٍ لتشكيل الهُويَّة : مِنَ الجُرح إلى المأساة
لا تَختفي التجاربُ المؤلمةُ مع مرور الزمن، بل تَتحوَّلُ إلى “نصوصٍ تأسيسيةٍ” تُرافِقُ الإنسانَ حتى النهاية… ؛ فما يَمرُّ به الطفلُ مِن تنمُّرٍ أو إهمالٍ لا يَبقى حبيسَ الذاكرة فحسب، بل يَتحوَّلُ إلى بُنيةٍ تحتيةٍ لشخصيته : خوفٌ مِن الانفتاح، صعوبةٌ في الثقة، أو نزوعٌ إلى العدوانية كآليةٍ دفاعية… ؛ والأخطرُ أنَّ هذه الجروحَ تَظلُّ تُنتجُ سِيالاتِها الأليمةَ حتى عند الكِبَر، فالكثيرُ مِن صراعات البالغين ليست سوى امتدادٍ لصراعاتٍ طفوليةٍ لم تُحلَّ، أو جروحٍ لم تُداوْ!
الطفولةُ ليست مُجرَّدَ ذكريات
الدرسُ الأعمقُ هنا أنَّ الطفولةَ ليست مرحلةً عابرةً في حياة الإنسان، بل هي اللَّبنةُ الأولى في صرحِ هُويته النفسية والاجتماعية… ؛ فكلُّ موقفٍ، وكلُّ كلمةٍ، وكلُّ نظرةٍ يَتلقاها الصغيرُ تَحمِلُ في طياتها قوةَ البناءِ أو الهدم… ؛ ومن هنا تبرزُ أهميةُ إعادة النظر في كيفية تعاملنا مع الصراعات الطفولية ؛ فما يُعامَلُ على أنَّه “سخافةُ أطفال” قد يَتحوَّلُ إلى مأساةٍ إنسانيةٍ تُرسمُ ملامحُها على جدارِ الزمن.