
الكاتب : غالب الحبكي
—————————————
لم يكن العراقيون يدركون أنهم وقعوا بين ناري الاحتلالين، حيث غزت بلادهم القوات العثمانية، ولم تجلب لهم سوى الاستعباد، والإذلال، والتهميش، ونهب الثروات، وسرقة قوت أطفالهم. كانت تلك الحقبة مليئة بالقتل وسفك الدماء، واستمرت لسنوات طويلة تحت نير الاستعمار، حيث فرضت الضرائب الباهظة على الفلاحين، وتم استضعافهم وسرقة محاصيلهم من الحنطة والشعير والمواشي، مما عمّق معاناة العراقيين، خاصة مع غياب الصناعات والمهن الحرفية وندرتها في القرن العشرين.
لكن مع ضعف السلطة العثمانية وتراجع نفوذها نتيجة الفساد المستشري داخل جهازها العسكري، بدأ تأثيرها يتقلص تدريجيًا. وفي، نوفمبر عام 1914، أقتحمت القوات البريطانية البصرة خلال الحرب العالمية الأولى، لتبدأ مرحلة جديدة من الاحتلال والصراع الاستعماري في العراق. وبعد سلسلة من المعارك، تمكنت بريطانيا من السيطرة على بغداد في مارس 1917 ، مما شكل نقطة تحول رئيسية في هيمنتها على البلاد.
سبقت ذلك موجات من التقارير الاستخباراتية التي انهالت على بريطانيا من جواسيسها في الشرق الأوسط، من ان موقف” شيعة العراق” سيكونوا من مؤيدي الاحتلال الجديد، التوقعات كانت تشير إلى أنهم سيكونون مؤيدين للوجود البريطاني، إلا أن المفاجأة الكبرى تمثلت في انقلاب الموقف الشيعي نحو المقاومة المسلحة ضد الاحتلال. منذ اللحظة الأولى، جاء وبرز موقف الشيعة موحداً في رفض دخول البريطانيين الى العراق، وكان هذا الرفض صدمة غير متوقعة لبريطانيا، التي كانت تأمل في نيل تأييد شعبي يسهل لها السيطرة على البلاد وإدارتها.
انطلقت المقاومة المسلحة مستعملة جميع الأسلحة المتاحة، بدءاً من البنادق الألمانية والعثمانية، وصولاً الى الأسلحة التي غنمها المجاهدون من القوات العثمانية أو التي اقتنوها عبر سماسرة الجيش. شكلت هذه المقاومة تحدياً غير متوقع للجيش البريطاني، الذي أدرك أن السيطرة على العراق لن تكون بالسهولة التي توقعها جنرالات لندن.
الدور القيادي الذي برز من رجال الدين في قيادة المقاومة لطالما كان الفكر الشيعي قائمًا على رفض الظلم والاضطهاد، خاصة أن مدينة النجف الأشرف المقدسة كانت مركزاً للإشعاع الفكري والديني الذي ساهم في تحشيد القوى المقاومة. كان علماء الدين يدركون فساد الاحتلال العثماني وضرره على المجتمع العراقي، لكنهم كانوا أيضاً على يقين بأن الاحتلال البريطاني لن يكون أقل استبداداً و ظلماً وفتكاً، بل قد يكون أكثر سوءاً، لذا توحدوا لمواجهة هذا العدو الجديد.
تحولت أرض العراق إلى ساحة مواجهة بين المقاومة والمحتل، حيث قاد رجال الدين المعركة ووضعوا خطة استراتيجية لتوزيع القوات على ثلاث جبهات رئيسية:
“جبهة البصرة” بقيادة السيد المجاهد محمد سعيد الحبوبي (رحمه الله).
“جبهة القرنة” بقيادة السيد المجاهد مهدي الحيدري (رحمه الله)، الذي رغم بلوغه الثمانين من العمر، كان عنصراً أساسياً في تعزيز عزيمة المجاهدين وتحفيزهم على الشهادة دفاعاً عن أرض الإسلام والوطن.
“جبهة الخفاجية” بقيادة الشيخ المجاهد الخالصي (رحمه الله).
شكل هذا التنظيم العسكري المدروس صفعة قوية لبريطانيا، التي فوجئت بحجم وزخم المقاومة العراقية، والتي كانت أكبر العقبات أمام احتلالها وإدارتها للعراق. لقد ظن البريطانيون أن العراق سيكون سهل السيطرة، لكن العراقيين، رغم إمكانياتهم المحدودة، تمكنوا من قلب موازين القوى وإحداث تأثير كبير في مواجهة الاحتلال، ليكتبوا صفحة مشرقة في تاريخ الدفاع عن الأرض والهوية الوطنية.