الكاتب : د. فاضل حسن شريف
—————————————
عن تفسير الميسر: قوله جلت قدرته “لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ۚ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ” ﴿الحج 67﴾ أمة اسم، لكل أمة من الأمم الماضية جعلنا شريعة وعبادة أمرناهم بها، فهم عاملون بها، فلا ينازعنك- أيها الرسول- مشركو قريش في شريعتك، وما أمرك الله به في المناسك وأنواع العبادات كلها، وادع إلى توحيد ربك وإخلاص العبادة له واتباع أمره، إنك لعلى دين قويم، لا اعوجاج فيه. وجاء في تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله جلت قدرته “لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ” فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ” وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ” إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ” (الحج 67) “لكل أمة جعلنا منسكا” بفتح السين وكسرها شريعة “هم ناسكوه” عاملون به، “فلا يُنازعُنَّك” يراد به لا تنازعهم “في الأمر” أي أمر الذبيحة إذ قالوا: ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم، “وادع إلى ربك” إلى دينه، “إنك لعلى هدى” دين “مستقيم”.
وعن تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله جلت قدرته “لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ۚ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ” ﴿الحج 67﴾ المنسك مصدر ميمي بمعنى النسك وهو العبادة ويؤيده قوله:”هم ناسكوه” أي يعبدون تلك العبادة، وليس اسم مكان كما احتمله بعضهم. والمراد بكل أمة هي الأمة بعد الأمة من الأمم الماضين حتى تنتهي إلى هذه الأمة دون الأمم المختلفة الموجودة في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم كالعرب والعجم والروم لوحدة الشريعة وعموم النبوة. وقوله: “فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ” نهي للكافرين بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن منازعته في المناسك التي أتى بها وهم وإن كانوا لا يؤمنون بدعوته ولا يرون لما أتى به من الأوامر والنواهي وقعا يسلمون له ولا أثر لنهي من لا يسلم للناهي طاعة ولا مولوية لكن هذا النهي لما كان معتمدا على الحجة لم يصر لغوا لا أثر له وهي صدر الآية. فكأن الكفار من أهل الكتاب أو المشركين لما رأوا من عبادات الإسلام ما لا عهد لهم به في الشرائع السابقة كشريعة اليهود مثلا نازعوه في ذلك من أين جئت به ولا عهد به في الشرائع السابقة ولو كان من شرائع النبوة لعرفه المؤمنين من أمم الأنبياء الماضين؟ فأجاب الله سبحانه عن منازعتهم بما في الآية. ومعناها أن كلا من الأمم كان لهم منسك هم ناسكوه وعبادة يعبدونها ولا يتعداهم إلى غيرهم لما أن الله سبحانه بدل منسك السابقين مما هو أحسن منه في حق اللاحقين لتقدمهم في الرقي الفكري واستعدادهم في اللاحق لما هو أكمل وأفضل من السابق فالمناسك السابقة منسوخة في حق اللاحقين فلا معنى لمنازعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من المنسك المغاير لمناسك الأمم الماضين. ولما كان نهيهم عن منازعته صلى الله عليه وآله وسلم في معنى أمره بطيب النفس من قبل نزاعهم ونهيه عن الاعتناء به عطف عليه قوله:”وادع إلى ربك” كأنه قيل: طب نفسا ولا تعبأ بمنازعتهم واشتغل بما أمرت به وهو الدعوة إلى ربك. وعلل ذلك بقوله: “إنك لعلى هدى مستقيم” وتوصيف الهدى بالاستقامة وهي وصف الصراط الذي إليه الهداية من المجاز العقلي.
وعن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله جلت قدرته “لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ۖ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ ۚ وَادْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ۖ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ” ﴿الحج 67﴾ “لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ”. المراد بكل أمة أهل الأديان، والمنسك يطلق على ما يذبح لوجه اللَّه من الانعام كما في الآية 34 من هذه السورة وأيضا يطلق على مكان العبادة، وعلى الشريعة والمنهج، وهذا المعنى هو المراد هنا لقوله تعالى بلا فاصل: “فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ” أي ما دام لكل أهل ملة شريعة ومنهاج فعلى أهل الأديان والملل ان لا ينازعوك يا محمد في الإسلام وشريعته، فقد كانت شريعة التوراة والإنجيل للماضين، أما شريعة القرآن فهي لأهل العصر الذي نزل فيه، ولكل عصر إلى يوم يبعثون “وادْعُ إِلى رَبِّكَ” ولا تهتم باعراض من أعرض، ونزاع من نازع “إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ” ومن اتبع هداك فلا يضل ولا يشقى.
جاء في موقع مؤسسة تراث الشهيد محمد بافر الحكيم عن مفهوم الامة في السياق القرآني للدكتور محمد جعفر العارضي: ومما تقدم نصير مع السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) الى أنَّ القرآن الكريم (حينما يؤكد هنا على مفهوم (الأُمَّة) يعبر بها عن الجماعة التي يشترك افرادها في التأريخ المعنوي (العقائدي و السلوكي) وكذلك يشترك ابناؤها في العقيدة و السلوك الاجتماعي القائم على هذه العقيدة)، فتظهر رابطة السلوك الاجتماعي العام متمثلا بالدعوة الى الخير و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما في قوله تعالى: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (آل عمران 104). وقوله تعالى: “وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ” (الاعراف 181) وورد لفظ الامة في: (آل عمران 110-113)، (الاعراف 159). و تظل للفظة (الأُمَّة) دلالتها على (جماعة العلماء) في هذا السياق، فيكون العلم من مظاهر السلوك العام الذي تتبناه هذه الامَّة. ويظهر ايضا الأجل المعنوي، و(هو الاجل للعلاقات التي تربط بين هؤلاء الاشخاص عقائديا وسلوكيا، والتغييرات الرئيسة التي تحصل في الجوانب المعنوية للروابط والعلاقات السائدة في تلك الامم، حيث يترتب على هذه التغييرات العقائدية والسلوكية التغييرات الاجتماعية). ومن ذلك قوله تعالى: “وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ” (الاعراف 34) وورد لفظ الامة في: (المائدة 66)، (الانعام 108)، (الاعراف 34-38)، (الأعراف 164)، يونس 49، (الرعد 30)، (الحجر 5) (المؤمنون 43-44)، (الحج: 34-67). و هنا اشارة لطيفة من السيد محمد باقر الحكيم قدس سره الى أنَّ (ما يصدر من الناس من اعمال سلوكية و اجتماعية، و ما يقومون به من نشاطات فكرية و معنوية صالحة او طالحة يؤثر بشكل مباشر في حركة التأريخ و الاوضاع الاجتماعية للناس و في تحديد عمر هذه الامَّة او تلك). و لا شك أنَّنا بازاء عمر قيمي و اخلاقي لهذه الامَّة او تلك، فضلا عن العمر التأريخي. وفي التفاتة رائعة من السيد محمد باقر الحكيم (قدس سره) تأتي مسألة الفروق الدلالية التي تنم عن ذائقة لغوية و مقدرة عالية يتمتع بها في التماس المعنى و التحليل الدلالي السياقي، ولا سيما التفريق بين لفظتي (الأمَّة) و (القوم)، إذ يلحظ أنَّ لفظة (قوم) تستعمل للدلالة على (الجماعة التي تكون الروابط فيما بينها روابط شعوبية ذات علاقة بالدم و التأريخ المادي و الارضي أمَّا (الأمَّة) فهي لفظة يراد منها بمعناها اللغوي مجرد الجماعة، و لكنَّها تطورت في الاستعمال القرآني فاصبحت كلمة تعني الجماعة التي ترتبط فيما بينها بالروابط الفكرية والعقائدية والسلوكية).