الرحالية: واحة الأصالة ونبض الذاكرة في قلب الصحراء

الكاتب : د. عبدالله يوسف بيك الحسني الهاشمي
—————————————
بين رحاب الصحراء الشاسعة، حيث تلتقي الرمال بالسماء بلا نهاية، تبرز الرحالية لوحةً أبدعها خالق الزمن، وكأنها قصيدة نُسجت بحبر الأرض وعطر الرياح. إنها ليست مجرد ناحية عابرة في محافظة الأنبار، بل هي رمز من رموز الأصالة، ودعامة من دعامات الذاكرة العراقية التي لا تنسى.

حين تسير في طرقاتها، تشعر أن كل حجر فيها يحتفظ بوشم الزمن، وكل نسمة هواء تحمل أنين الأجداد الذين صاغوا تاريخ هذه الأرض بعرق جبينهم، وبإيمان لا يلين. الرحالية ليست فقط جغرافيا، بل هي روح، تاريخ، ووجدان.

الرحالية، التي كانت من أوائل ما بُني في الأنبار، تحكي حكاية رجل عراقي وقف على باب الزمن يواجه الريح والتحدي، يصنع من عجز الطبيعة منبراً للحياة، ومن الصحراء مرآة للمجد. فيها كان البيت بيت الكرامة، والعشيرة حاملة المشعل، والحكمة تعانق سماءها كما تعانق النخلة جذورها.

هذه الأرض التي نبتت في رحمها القيم، هي حضنٌ استوطن فيه الإنسان معاناته وأحلامه، وعاش فيها كرامته ووفاءه. أهل الرحالية، رجالها ونساؤها، كل منهم قصيدة تُروى، وكل منهم نجم في سماء العروبة.

كنزٌ وجده الشقيقانِ علي بيك وسليمان بيك، بعد أن ضاقت بهم الأرض بما رحبت لفقد أمهما، صارت لهما الرحالية أُمًّا، ثم صارت كذلك لمن قدم إليها من الوافدين بعدهما

هنا، لا يُقاس الإنسان بما يملك من مال، بل بما يملك من شرف، ولا تُكتب الكلمات إلا بحروف الصدق والوفاء. فهذه الناحية الصغيرة بحجمها، لكنها كبيرة في معدنها، كانت وستبقى عبر العصور صوتاً يصدح بحب الوطن وعزة الإنسان.

وإن كنت تريد أن ترى العراق كما كان، فلتنظر إلى الرحالية حيث تختصر الحقيقة في بساطة الحياة، وصدق القلوب، وجمال التقاليد. هناك، حيث الأصالة لا تباع ولا تُشترى، حيث الكرم لا يُدان ولا يُحسب، هناك يولد الإنسان من جديد، ويعيش مجده في صمت الصحراء العتيقة.

إنها الناحية التي لم تنسَ أن تكون وطنًا قبل أن تكون مكانًا على الخريطة، وأن تبقى القلب الذي ينبض بأمل العراق، وأن تظلّ الحكاية التي لا تنتهي، وقصيدة الشعر التي لا تقرأ، بل تُحس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *