ناجي الغزي
تعيش الجمهورية الإسلامية في قلب معركة خفية تكاد تفوق في تعقيدها ما يجري في ميادين القتال التقليدية. فمنذ سنوات، كثّف الموساد الإسرائيلي من عملياته داخل العمق الإيراني، معتمداً على مزيج متطور من الاستخبارات البشرية، والحرب السيبرانية، والتقنيات الحديثة، ما مهّده لتنفيذ عمليات دقيقة شملت اغتيالات وعمليات تخريب وهجمات رقمية أربكت بنية إيران الأمنية والعسكرية.
فخلال السنوات الماضية، استطاع الموساد تنفيذ سلسلة عمليات نوعية داخل العمق الإيراني، استندت إلى شبكة معقدة من الاستخبارات البشرية، تمزج بين التجنيد والتكنولوجيا، بين الابتزاز والترهيب، وبين المال والمعلومات. ومع كل عملية اغتيال أو اختراق سيبراني، كانت تتكشف المزيد من نقاط ضعف المنظومة الأمنية الإيرانية.
الأكثر إيلاماً لإيران، أن الهجمات لم تكن كلها من الخارج، بل تمّت بمساعدة داخلية واضحة: عملاء، مخبرون، منشقون، وأقليات مُستغَلّة، بعضهم تمكّن من اختراق المنشآت النووية والعسكرية الحساسة، وآخرون عملوا ضمن شبكات الخدمات اللوجستية ومراكز الاتصالات.
فما كشفته التقارير الأخيرة يوضح بجلاء أن إسرائيل استثمرت في أحدث تقنيات الذكاء الاصطناعي، والمراقبة، والروبوتات، لتُقلل من التدخل البشري في عملياتها الحساسة، كما حصل في اغتيال العالم النووي محسن فخري زاده الذي نُفذ بتقنية مركّبة جمعت بين الرصد عن بُعد والتصويب الدقيق، عبر نظام ذاتي التشغيل، في واحدة من أكثر العمليات تعقيداً خلال العقد الأخير.
التخريب من الداخل.. والهجوم من الخارج
أحدث الهجمات التي كُشف عنها لم تكن صاروخية ولا غارات جوية، بل عمليات تهريب ممنهجة لمئات الطائرات المسيّرة الانتحارية إلى داخل إيران، عبر شركات شحن وحقائب دبلوماسية، دون أن يكون الشركاء التجاريون مدركين لدورهم. الدور الميداني اقتصر على تجميع الذخائر وتوزيعها ضمن فرق حصلت على تدريبات في دول ثالثة، في نموذج يُحاكي إلى حد بعيد التكتيك الأوكراني في الرد على الهجمات الروسية.
ومع اكتشاف هذه الشبكات، أعلنت طهران رفع حالة التأهب الأمني، وبدأت بإجراء مسوحات أمنية داخلية، أسفرت عن مصادرة العشرات من المسيرات والورَش السرية لتصنيعها، مع اعتقالات متتالية لخلايا مرتبطة بالموساد، آخرها في جنوب غرب طهران، كانت بحوزتها متفجرات متطورة.
وفي الوقت ذاته، شنّت إيران هجمات جوية استهدفت قواعد يُعتقد أنها انطلقت منها هجمات إسرائيلية داخل الأراضي الإيرانية، وأعلنت قوات الحرس الثوري أن الردود لن تكون تقليدية بعد اليوم، بل متواصلة، معقدة، ومتعددة الطبقات.
هل باتت الحرب الشاملة وشيكة؟
بين التصريحات المتبادلة، والضربات الجراحية المتبادلة، يقف العالم اليوم أمام سؤال مخيف: هل نحن على أعتاب حرب مفتوحة بين إيران وإسرائيل؟ إيران، على لسان قياداتها العسكرية، لم تُخفِ استعدادها، بل ذهبت بعيداً في تهديداتها، مطالبة سكان تل أبيب وحيفا بإخلاء المدينتين فوراً. فالرد كما تقول سيكون عقابياً وحاسماً.
في المقابل، تعيش إسرائيل حالة من القلق السيبراني، فخلال الأيام الأخيرة، تعرّض الآلاف من الإسرائيليين لهجوم نفسي منظم، عبر رسائل نصية مزيفة زعمت على ان وجود تهديدات إرهابية في الملاجئ، أدّت إلى حالة من الذعر، رغم أن الجيش الإسرائيلي أكد أنها لا تحتوي على برمجيات خبيثة، بل تعد جزءاً من حرب نفسية تنفذها مجموعات مرتبطة بإيران.
هل التدخل الأمريكي يغيير قواعد اللعبة؟
رغم كل ما يجري، يبقى اللاعب الأكبر في خلفية المشهد هو الولايات المتحدة. فإيران تدرك أن أي انخراط مباشر لأمريكا في هذه الحرب – خاصة ضد منشأة “فوردو” النووية شديدة التحصين – سيقلب المعادلة كلياً. لذلك كانت التهديدات الإيرانية موجّهة مباشرة للبيت الأبيض، مفادها: احذروا من اي مواجهة، فقواعدكم مكشوفة أمام صواريخنا.
فأمريكا، التي تزود إسرائيل بأحدث منظومات الدفاع الجوي، لم تتمكن حتى اللحظة من حمايتها من الضربات الإيرانية الدقيقة. بل إن هناك أسلحة إيرانية جديدة لم تُجرّب بعد. وإذا تورطت واشنطن ميدانياً، فعليها أن تُدرك أن قواعدها العسكرية المنتشرة في الشرق الأوسط، والتي تضم نحو 41 ألف جندي وضابط، ستكون تحت رحمة الصواريخ الفرط صوتية الإيرانية، القادرة على تجاوز الدفاعات وإحداث دمار واسع.
الولايات المتحدة لم تدخل الحرب بعد، ليس لأنها مترددة، بل لأنها تنتظر لحظة الانقضاض الاستراتيجي. فهي تدرك أن الدخول في مواجهة شاملة مع إيران يتطلب أولاً إضعاف قدراتها الدفاعية وتفكيك أدوات ردعها التدريجي. واشنطن تنتظر أن تصل طهران إلى حالة إنهاك سياسي وأمني تجعلها عاجزة عن المواجهة الفعلية، أو أقل قدرة على توجيه رد موجع في العمق الأميركي أو الإسرائيلي.
لكن ما يعيق هذا السيناريو أن واشنطن لا تستطيع اتخاذ قرار الحرب منفردة دون أخذ موقف حلفاء إيران بعين الاعتبار، وتحديداً موقفي روسيا والصين، وربما باكستان في حال تطور الصراع إلى مستويات أوسع. وهنا تكمن المعضلة الحقيقية: إذ إن الحصول على ضوء أخضر من هذه القوى الكبرى يظل احتمالاً معقداً، بل يكاد يكون مستحيلاً التنبؤ به، نظراً لتشابك المصالح وتبدّل الأولويات في المشهد الدولي.
حرب لا تُشبه الحروب
نحن أمام حرب تُخاض بصمت، من دون رايات تُرفع أو جبهات تُرسم، لكنها مستعرة في عمق الجغرافيا والأعصاب، وتترك آثارها في العمق، وتعيد تشكيل ملامح الصراع في المنطقة. إنها حرب بلا إعلان، لا تشبه تلك التي عرفها التاريخ؛ لا دبابات فيها ولا صواريخ تُرى، بل أدواتها أجهزات استخباراتية، وخيوط تجسس ناعمة، وتقنيات اختراق تتسلل. والتلاعب بالعقول والشبكات. إنها حرب الإرادات العميقة، التي لا تُقاس بالخسائر الميدانية، بل بمدى زعزعة الخصم من الداخل، وبحجم الأسئلة التي تتركها كل ضربة غامضة في عمق النظام.
وإيران، التي تخوض هذه المعركة في عين العاصفة، تدرك أن الرد لم يعد كافياً.
فالمطلوب ليس مجرد الانتقام، بل إعادة صياغة معادلة الردع. أن تُثبت للعالم، وللعدو، أن زمن التفوق الإسرائيلي المطلق في الظل قد شارف على الانتهاء. وأن الرسالة القادمة يجب أن تكون صاخبة، واضحة، وقادرة على كسر وهم الحصانة الذي طالما أحاط به الكيان نفسه.
في منطق هذه الحرب، لا يكفي أن تصمد، بل يجب أن تُبادر، أن تُفاجئ، وأن تُجبر الآخر على إعادة الحسابات. تلك هي معادلة الردع الجديدة التي تبحث عنها طهران: أن لا يكون هناك طرف آمن، ولا عمق بمنأى عن الرد، ولا سماء بلا تهديد.
نحن أمام حرب لم تعلن بعد، لكنها قائمة بالفعل. حرب لا تُشبه الحروب القديمة، ولا تُدار بوسائل تقليدية. إنها حرب اختراق، وحرب أجهزة، وحرب إرادات. وإيران، التي تعيش في قلب هذا الإعصار، لا تبحث فقط عن الرد، بل عن ترميم الردع، وتوجيه الرسالة الأكثر وضوحاً: أن عصر الحصانة الإسرائيلية قد انتهى، وأن زمن التهديد من طرف واحد قد ولّى.