الكاتب : د. فاضل حسن شريف
—————————————
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله جل اسمه “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ” ﴿البقرة 219﴾ الجواب على أربعة أسئلة: الآية الاُولى تُجيب عن سؤالين حول الخمر والقمار “يسألونك عن الخمر والميسر”. “الخمر” في اللّغة بقول الرّاغب بمعنى الغطاء وكلّ ما يُخفي شيئاً وراءه هو”خمار” بالرّغم من أنّ الخِمار يُستعمل في الإصطلاح لغطاء الرّأس بالنسبة للمرأة. وفي معجم مقاييس اللّغة ورد أنّ الأصل في كلمة “الخمر” هو الدلالة على التغطية والاختلاط الخفي وقيل للخمر خمر، لأنّه سبب السكر الّذي يغطي على عقل الإنسان ويسلبه قدرة التمييز بين الحسنة والقبيح. أمّا في الإصطلاح الشرعي فيأتي “الخمر” بمعنى كلّ مايع مسكر، سواء اُخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو شيء آخر، بالرّغم من أنّ الوارد في اللّغة أسماء مختلفة لكلّ واحد من أنواع المشروبات الكحوليّة. “الميسر” من مادّة “اليُسر” وإنّما سمّي بذلك لأنّ المُقامر يستهدف الحصول على ثروة بيُسر ودون عناء. ثمّ تقول الآية في الجواب “قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما”. ومع الإلتفات إلى أنّ المجتمع الجاهلي كان غارقاً في الخمر والقمار، ولذلك جاء الحكم بتحريمهما بشكل تدريجي وعلى مراحل، كما نرى من اللّين والمداراة والاُسلوب الهادئ في لحن الآية إنّما هو بسبب ما ذكرناه. في هذه الآية وردت مقايسة بين منافع الخمر والميسر وأضرارهما وأثبتت أنّ ضررهما وإثمهما أكثر من المنافع، ولاشكّ أنّ هناك منافع ماديّة للخمر والقمار أحياناً يحصل عليها الفرد عن طريق بيع الخمر أو مزاولة القمار، أي تلك المنفعة الخياليّة الّتي تحصل من السكر وتخدير العقل والغفلة عن الهموم والغموم والأحزان، الإّ أنّ هذه المنافع ضئيلة جدّاً بالنسبة إلى الأضرار الأخلاقيّة والإجتماعيّة والصحيّة الكثيرة المترتّبة على هذين الفعلين. وبناءً على ذلك، فكلّ إنسان عاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه كثيراً من أجل نفع ضئيل. “الإثم” كما ورد في معجم مقاييس اللّغة أنّه في الأصل بمعنى البُطىء والتأخّر، وبما أنّ الذنوب تُؤخّر الإنسان عن نيل الدّرجات والخيرات، ولذلك اُطلقت هذه الكلمة عليها، بل أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية هذا المعنى بالذّات من كلمة الإثم مثل “وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ” (البقرة 206) أي أنّ الغرور والمقامات الموهومة تؤخّره عن الوصول إلى التّقوى.
ويستطرد الشيخ الشيرازي في تفسير الآية البقرة 219 قائلا: وعلى كلّ حال، فالمراد من الإثم هو كلّ عمل وشيء يُؤثّر تأثيراً سلبيّاً في روح وعقل الإنسان ويُعيقه عن الوصول إلى الكمالات والخيرات، فعلى هذا يكون وجود “الإثم الكبير” في الخمر والقمار دليل على التأثير السلبي لهما في وصول الإنسان إلى التقوى والكمالات المعنويّة والإنسانيّة الّتي سوف يأتي شرحها. السؤال الثالث المذكور في الآية محلّ البحث هو السؤال عن الإنفاق فتقول الآية “ويسألونك ماذا يُنفقون قل العفو”. ورد في تفسير (الدّر المنثور) في شأن نزول هذه العبارة من الآية عن ابن عبّاس أنّ المسلمين سألوا الرسول “صلى الله عليه وآله وسلم” عند نزول آيات الحثّ على الإنفاق: ماذا يُنفقون؟ أيُنفقون كلّ أموالهم أم بعضها ؟ فنزلت الآية لتأمر برعاية “العفو”. ولكن ما المراد من (العفو) في الآية؟ (العفو) في الأصل كما يقول الرّاغب في المفردات بمعنى القصد إلى أخذ شيء، أوب معنى الشيء الّذي يُؤخذ بسهولة، وبما أنّ هذا المعنى واسع جدّاً ويُطلق على مصاديق مختلفة منها: المغفرة والصفح وإزالة الأثر. الحد الوسط بين شيئين. المقدار الإضافي لشيء. وأفضل جزء من الثروة. فالظاهر أنّ المعنى الأوّل والثاني لا يتناسب مع مفهوم الآية، والمراد هو أحد المعاني الثلاثة المتأخّرة، يعني رعاية الحد الوسط في الإنفاق، أو إنفاق المقدار الزائد عن الحاجة، أو إنفاق القسم الجيّد للأموال وعدم بذل الحصّة الرخيصة والعديمة النفع من المال. وهذا المعنى وارد أيضاً في الروايات الإسلاميّة في تفسير هذه الآية، وقد ورد عن الإمام الصادق “عليه السلام” أنّه قال: العفو الوسط (أي أنّ المراد من العفو في الآية أعلاه هو الحد الوسط). وورد في تفسير علي بن إبراهيم (لا إقتار ولا إسراف). وفي مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه السلام (العفو ما فضل عن قوت السّنة). ويُحتمل أيضاً أن يكون العفو في الآية (وإن لم أجده في كلمات المفسّرين) هو المعنى الأوّل، أي الصفح عن أخطاء الآخرين، وبذلك يكون معنى الآية الكريمة: أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق. ولا يبعد هذا الإحتمال لو أخذنا بنظر الإعتبار أوضاع شبه جزيرة العربيّة عامّة وخاصّة مكّة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر والعداء والحقد بين الناس، وخاصّة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو النموذج الكامل لهذا المعنى، كما أعلن العفو العامّ عن مشركي مكّة الّذين هم أشدّ الناس عداوة للإسلام والمسلمين، والجواب بهذا المعنى لا يتنافى مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي، لأنّهم قد يسألون عن موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه، والقرآن يستثمر فرصة سؤالهم المعبّر عن استعدادهم للسّماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم، وهذا من شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعاً أهم. ولا يوجد تعارض بين هذه التفاسير، فيمكن أن تكون مرادة بأجمعها من مفهوم الآية. وأخيراً يقول تعالى في ختام الآية: “كذلك يُبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تتفكّرون”. ويذكر بدون فصل في الآية التالية المحور الأصلي للتفكّر ويقول “في الدنيا والآخرة”. أجل، يجب أن تكون جميع نشاطات الإنسان الماديّة والمعنوية في الحياة مشفوعة بالفكر والتدبّر، ويتّضح من هذه العبارة أمران: الأوّل: إنّ الإنسان إضافة إلى وجوب التسليم أمام أوامر الله يجب أن يُطيع هذه الأوامر عن تفكّر وتعقّل لا عن اتّباع أعمى، وبعبارة اُخرى على الإنسان المؤمن أن يعي أسرار الأحكام وروحها ليس فقط في مجال تحريم الخمر والقمار، بل في جميع المجالات ولو إجمالاً. ولا يعني هذا الكلام أنّ إطاعة الأحكام الإلهيّة مشروطة بإدراك فلسفتها وحكمتها، بل المراد أنّ الإنسان يجب عليه بموازاة الطّاعة العمليّة أن يسعى إلى فهم أسرار وروح الأحكام الإلهيّة. الثاني: أنّ على الإنسان أن لا يحصر تفكيره في عالم المادّة وحده أو عالم المعنى وحده، بل عليه أن يفكّر في الإثنين معاً، لأنّ الدنيا والآخرة مرتبطتان وكلّ خلل في أحدهما يخلُّ بالآخر، وأساساً لا يُمكن أن يؤدي أحدهما إلى رسم صورة صحيحة عن الواقعيّات في هذا العالم، لأنّ كلاًّ منهما هو قسم من هذا العالم، فالدنيا هي القسم الأصغر والآخرة القسم الأعظم، فمن حصر فكره في أحدهما فإنّه لا يمتلك تفكيراً سليماً عن العالم.
جاء في كتاب البيان في تفسير القرآن للسيد ابو القاسم الخوئي قدس سره: مناقشة ادعاء نسخ آية: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ” (النساء 43). فلان الاية الكريمة لا دلالة فيها على جواز شرب الخمر بوجه، وإن فرض أن تحريم الخمر لم يكن في زمان نزول الاية، فالاية لا تعرض لها لحكم الخمر رخصة أو تحريما. على أن هذا مجرد فرض لا وقوع له، ففي رواية ابن عمر: نزلت في الخمر ثلاث آيات فأول شئ نزل: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا” (البقرة 219). فقيل: حرمت الخمر، فقيل يا رسول الله دعنا ننتفع بها، كما قال الله عز وجل، فسكت عنهم، ثم نزلت هذه الاية: “لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ” (النساء 43). وروى نحو ذلك أبو هريرة. وروى أبو ميسرة عن عمر بن الخطاب قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت هذه الاية التي في سورة البقرة: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ” (البقرة 219). قال: فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الاية التي في سورة النساء: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى” (النساء 43). فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أقام الصلاة نادى: لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الاية التي في المائدة فدعي عمر فقرئت عليه، فلما بلغ: “فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ” (المائدة 91). قال: فقال عمر: انتهينا انتهينا. وأخرج النسائي أيضا هذا الحديث باختلاف يسير في ألفاظه. وأما القول الثاني: فلان وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة لا مساس له بمضمون الاية الكريمة ليكون ناسخا لها.
يقول المرجع الاعلى السيد محمد سعيد الحكيم قدس سره عن قوله تعالى: “يَسأَلُونَكَ عَن الخَمرِ وَالمَيسِرِ قُل فِيهِمَا إِثمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكبَرُ مِن نَفعِهِمَا” (البقرة 219). والميسر القمار كما في مجمع البيان وتفسير القرطين، ويستفاد من بعض كلمات اللغويين. ويقتضيه غير واحد من النصوص، ويأتي بعضها أو قسم منه، كما يستفاد من بعض آخر من كلماتهم. وربما يكون في أصل اللغة خصوص قسم منه، ثم اتسع معناه بعد ذلك، أو استفيد من تحريمه إلغاء خصوصيته وحرمة كل قمار. والأمر سهل.