فلاح المشعل
تحدث مقالنا السابق عن المآلات التي ستنتهي لها الأمور في حال انتصرت إسرائيل في حربها ضد إيران، وبهذا المقال نعكس المعادلة في مقاربة تحليلية تكشف عن اختلاف توجهات العراقيين ما بين الولاء والعداء لإيران، ولماذا يحذرون من انتصارها بهذه الحرب؟
أن مفصل العلاقة بين إيران والعراق خلال القرن الأخير مليء بالأحداث والمواقف والمتغيرات والتفاصيل التي سنختصرها في التعرض لأهم محطاتها التي انعكست في مواقف سياسية وأخرى شعبية صارت تتضح خلال حرب إيران مع إسرائيل، ومع التسليم بإدانة العدوان الإسرائيلي على إيران، فإن استتباب الخوف لدى غالبية العراقيين من إعلان موقف صريح منها، يجعلنا ان نقدم هنا قراءة لأبرز ما يجول في خاطر وضمير قطاعات واسعة وكبيرة من العراقيين.
حفرت إيران لها أثرا عاطفيا وروحيا في المجتمع العراقي منذ زمن بعيد، فهي دولة جارة شاسعة، تنطوي على تنوع ديني ومذهبي وثقافي، كما فتحت الآفاق لتعايش واندماج سلمي بين الشعبين، بحكم علاقات الجوار التي تمتد من جنوب البلاد حتى شماله.
اختلاف الأنظمة السياسية في الدولتين، والذي حدث بعد ثورة تموز 1958، ومجيء سلطة حزب البعث 1969، اصطحب معه خلافات وصراعات بين النظام الإيراني والنظام العراقي، كما أخذ في بعض صفحات العداء الإعلامي والسياسي، يندفع نحو تصادمات حربية، لكن إيران الشاه كانت تحاذر من خوض الحروب مع العراق؛ نظرا للترابط الديني والطائفي، إذ يمثل العراق المرجعية الطائفية للأغلبية الشيعية في إيران، حتى جاءت الثورة الإيرانية 1978، لتمسك السلطة في إيران طبقة رجال الدين بزعامة الإمام الخميني، عندها جاء التقاطع الأيديولوجي والعقائدي على نحو صادم، غير قابل للتفاهم أو التفاوض لدى الطرفين. جاء تفجر الخلاف السياسي بين إيران والعراق، وكانت نشوة انتصار الثورة الإيرانية والتفاف الملايين حولها، سمح لغليان الفكر الثوري لدى الزعيم الخميني من استعارة فكرة “ليون تروتسكي ” أحد قادة ثورة أكتوبر 1917 وصاحب نظرية الثورة الدائمة، وقد أسلمها الإمام الخميني بعنوان “تصدير الثورة الإسلامية” معتمدا على قبول الشعوب الإسلامية لفكرة التحرر من الأنظمة الاستبدادية، في لحظة عبرت فيها الأفكار اليسارية والشيوعية والقومية أيضا عن ركود في الفعل الثوري، وكان المستضعفون في الأرض كما يحلو للخميني تسميتهم، تجذبهم بإغراء شديد طروحاته الثورية بلبوسها الإسلاموي التحرري.
تلك الطروحات استهدفت أولاً النظام العراقي، لكنها جاءت في لحظة في لحظة تاريخيّة غير مناسبة، لأن نظام صدام حسين كان في ذروة تنامي قوته العسكرية والتنظيمية والشعبية أيضاً، وكذلك في قدراته العلمية والتنموية على الصعيد الاقتصادي، كذلك ومشروع الدولة القومية العربية الذي حظي بدعم عربي دولي وشعبي، فجاء حرب الثمان سنوات 1980-1988 لتهلك الملايين من البشر والثروات، وتحدث أخاديد من ثارات وجروح نفسية عميقة وتجذير العداء بين الشعبين والدولتين، بعد عجزتما عن حسم الانتصار النهائي، وعناد إيران في قبول السلام والتفاوض، بل كانت إيران تريد إسقاط نظام صدام الذي أدماها في العمق الإيراني، حتى جاء قرار موافقة إيران على إيقاف الحرب عام 1988 من الإمام الخميني بحملته الشهيرة “تجرع كأس السم، أهون من إيقاف الحرب”!.
سقوط نظام صدام ومجيء الأحزاب الشيعية التي استوطنت أو أنشأت في إيران بوصايا وأفكار إيرانية، وتسلمها السلطة بقرارات من قوات الاحتلال الأمريكي وبمعية الأحزاب الكردية، كان حدثا دراميا كبيرا استبشرت فيه خيرا، وكانت الملايين من العراقيين تستقبل الرموز السياسية الشيعية القادمة من إيران، وهي توعد الناس بالحرية والسلام والعيش الكريم وغيرها.
لكن مع مرور السنوات وتموضع تلك الأحزاب الشيعية في السلطة، كشفت عن ولاءات كاملة لإيران من جهة، وقطيعة متدرجة مع آمال وحقوق العراقيين وحرياتهم من جهة أخرى، بل أدخلت البلاد في أتون حربا طائفية، وقامت بتصفيات ممنهجة للعلماء والأطباء والطيارين والأساتذة الأكاديميين، وسياسة إقصاء الكفاءات الوطنية النزيهة، وإحلال بدلاء بلا كفاءة أو نزاهة، فجاء غزو الفساد بعد محاولات توطين الممنوعات والسلوكيات الظلامية واستيقاظ حكايات أخرى مطمورة في عمق التاريخ لتعيد إنتاج المهزلة والخرافة في ضرب من بلاغة التخلف والتملق الطائفي السمج والقبيح اجتماعيا.
فجاءت أول انتفاضة شعبية وطنية عامة بعد 8 سنوات من حكم اتسم بسلطة الأحزاب التي صارت تكرر، وعلى نحو أسوأ ما كان يسود في حكم صدام، وقمعت تلك الانتفاضة عام 2011 بالسلاح والقتل، ثم توالت الانتفاضات والاحتجاجات تحت ظل حكومات متعاقبة اتسمت بالفشل والفساد، وسجلت أرقاما تاريخيّة مثيرة وغير مسبوقة في حجم السرقات والنهب والاستهتار الوظيفي والأمية المتسيدة في قيادة إدارات الدولة الهشيم، وأهم تلك الأحداث والجرائم التي ارتكبتها سلطات الأحزاب الحاكمة المستبدة، لم تكن بمعزل عن توجيهات السلطات الإيرانية السياسية والأمنية، ولعل شواهد ذلك ما حدث في انتفاضة تشرين 2019، إذ كادت تسقط حكومة الأحزاب والميليشيات لولا تدخل إيران في التخطيط والمساعدة على قمعها، وقدم العراقيون فيها مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعاقين!
كما صار الشعب العراقي يدرك أن الحكومات لا تتشكل والوزارات والمناصب المهمة بالحكومة، لا تتم إلا بموافقة وقرار إيراني، ناهيك عن الآفات الاجتماعية التي تدفقت على العراق من إيران مثل انتشار المخدرات والتزوير والممارسات الطقوسية الغريبة والمسيئة للتشيع العلوي.
تلك الأحداث والجروح المتراكمة في الذاكرة الوطنية العراقية، جعلت الأصوات تتعالى في قبول فكرة هزيمة إيران في حربها الدائرة مع إسرائيل، وكان الإعلام العراقي والعربي أيضا غير مقتصد في إظهار تلك الرغبة في هزيمة إيران.
قادة الأحزاب والإعلام الولائي والعاشقين للنظام الإيراني، يدافعون عن إيران في حربها ضد إسرائيل، بل يتمنون النصر لإيران على إسرائيل، في اعتقاد أن استمرار سلطتهم وعلاقاتهم وحضورهم الطائفي، يرتبط بوجود السلطة الحالية في إيران، بينما الآخرون من شيعة وكرد وسنة، يجدون حرية العراق واستقلاله لا يتحقق إلا في نهاية القبضة السلطوية الإيرانية على مقدرات العراق المالية والسياسية والأمنية.
الإشكالية الحقيقية تؤشر إلى برنامج ممنهج تشتغل عليه إيران في تعاملها مع العراق، بما يجعله بلدا تابعا لها، مجردا من مقومات الدولة والقرارات المستقلة سياسيا وأمنيا، بل تجد القرار الإيراني حاضرا في كل قرار أو إجراء يخص حاضر ومستقبل العراق، هذا الابتلاع غير المنظور، بحسب قناعات الغالبية من العراقيين، وبرغم التعاطف مع الشعب الإيراني إزاء ما يتعرض له من مآسي، فإن موقف التحفظ والحياد يطبع العديد من مواقف المرجعيات الدينية والاجتماعية والثقافية العراقية وكذلك العامة من الشعب، إزاء ما يحدث من حرب بين إسرائيل وإيران، وفي أفقها المضمر إدراك ومخاوف من الحالتين سواء بخسارة إيران للحرب وهيمنة إسرائيل وأمريكا على السلطة في إيران وتكرار تجربة الفشل والفساد في إيران كما حدث في العراق، أم انتصار إيران وعودتها إلى منهجيات الاستبداد والغطرسة من موقع المنتصر، لتبتلع العراق دون أي رادع!
*السؤال الذي يشغل الحكماء والعقلاء في كل من العراق وإيران، بعد نهاية الحرب وهزيمة إسرائيل، هل يعيد النظام الإيراني النظر في منهجياته السائدة منذ خمسة عقود، سواءً في علاقاته الداخلية مع الشعوب الإيرانية، أم مع جيرانه وأشقائه من العرب؟ هذا ما تجيب عنه الأيام المقبلة.