الكاتب : د. فاضل حسن شريف
—————————————
جاء في کتاب تفسير سورة هل أتى للسيد جعفر مرتضى العاملي: الامتنان الإلهي هداية، ورعاية: ولعلك تقول: لقد نهى الله عن المن على الآخرين، فقال: “وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِر” (المدثر 6)، وقال: “قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ” (الحجرات 17). ثم يقول: “بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ” (الحجرات 17). فكيف ينهاهم سبحانه عن المنّ، ثم يمنّ هو عليهم؟. ونقول في الجواب: بما أن الله سبحانه هو الرب الهادي، وهو الخالق والمالك، والمنعم المتفضل، فامتنانه تعالى كمال، وهداية، ورعاية، وربوبية. وأما امتنان الناس على غيرهم، فهو نقص، وعجز، وهوان. إنه بهذا الامتنان يذكره بعجزه، ونقِيصته، وحاجته.. ليضعه على الطريق الصحيح، حيث يشعر بعجزه أمام قدرته تعالى وبضعفه أمام قوته تعالى، وبفقره أمام غناه، وبجهله أمام علمه، وبنقصه أمام كماله. فيبعده بذلك عن حالة العجب، والرياء والغرور، ليكون بذلك أبعد عن الشرك، الذي هو أخفى فيه من دبيب النمل، كما جاء في الروايات الشريفة لأنَّ هذه العاهات: العجب والرياء والغرور، تجعله يشعر باستغنائه عن الله تعالى، وتدفع به إلى الاعتقاد بأن ما لديه من خصائص ومزايا وكمالات، إنما هو من الأمور الذاتية له، تماماً كما قال قارون: “إِنَّمَا أوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي” (القصص 78). فهو يشعر أنه ليس بحاجة إلى الله سبحانه، لأن لديه القدرات التي تمكِّنه من التأثير في الأشياء. فلماذا يخضع لله، ويجهد نفسه في عبادته، ويأخذ نفسه بتنفيذ أوامره ونواهيه؟ ولا شك في أن هذه حالة من الشرك الكامن في عمق ذاته، وهي من أهم أسباب رده إلى أسفل سافلين، وأن يكون في خُسر مستمر.. فالامتنان من الله هداية وتفضّل يعيد الإنسان إلى الارتباط بمصدر الفيض الحقيقي.. فيصحو بعد غفلة ويعلمه بضعفه بعد جهل ويوحّد الله بعد شرك.. ويؤمن به بعد كفر. ويتجه نحو شكر الله سبحانه بعد كفران ونحو عبادته بما يستحقه سبحانه، بعد تمرد وعصيان.. ويتوسل إليه بأحب الخلق إليه ولله الحجة البالغة في كل حين وزمان.. وصدق الله العلي العظيم حيث يقول: “بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ” (الحجرات 17).
قال الله تعالى “إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً” (الانسان 2) يقول السيد جعفر مرتضى العاملي: في هذه الآية المباركة دلالات هامة وإشارات دقيقة لا بد من الوقوف على ما يتيسر الوقوف عليه منها فنقول: (إِنَّا خَلَقْنَا): (إِنَّا خَلَقْنَا): إن أول ما يواجهنا في هذه الآية المباركة، هو أنه تعالى قد بدأها بالإشارة إلى نفسه بصيغة الجمع، فقال: “إِنَّا خَلَقْنَا” (الانسان 2). ولم يقل: أنا خلقت، أو لقد خلقت. فهل هناك من خصوصية اقتضت ذلك؟ وما الفرق بين الموارد التي يذكر الله سبحانه فيها نفسه بصيغة الجمع والموارد التي يأتي فيها بصيغة المفرد؟. وللإجابة على ذلك نقول: هناك آيات تكلّم الله سبحانه فيها عن نفسه بصيغة المفرد نذكر منها ما يلي: “إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي” (طه 14). “وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ” (طه 82). “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات 56). “إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا” (المؤمنون 111). “إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ” (البقرة 30). “إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة 30). “أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ” (البقرة 31). “قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ” (البقرة 33). ومما ورد بصيغة الجمع نذكر منها: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر 9). ” وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ” (الحجر 22). “أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً” (عبس 25).
ويستطرد السيد العاملي في شرح الآية الانسان 2 قائلا: “وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِين” (المؤمنون 12). “وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً” (المؤمنون 18). “فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاء أَمْرُنَا” (المؤمنون 27). “ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ” (المؤمنون 31). “لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ” (المؤمنون 49). “وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا” (المؤمنون 50). “أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ” (المؤمنون 55). “وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ” (المؤمنون 77). “مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى” (طه 55). والآيات كثيرة. فنلاحظ: أنه تعالى حين ذكر العبادة أو تحدث عن إثبات مقام الألوهية ونفي التأثير لغيره سبحانه، وعن الوحدانية، ونفي الشرك والشريك، والصاحبة، والولد، نلاحظ: أنه في مثل هذه الموارد قد جاء بصيغة المفرد، لأن المقام مقام تحديد، فهو يقول: “لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً” (الحج 26). ويقول: “مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَ لِيَعْبُدُونِ” (الذاريات 56). ويقول: “وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ” (يس 61). ويقول: “إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي” (طه 14). ويقول: “وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” (الأنبياء 92). ولكنه حين يريد أن يثبت مقام القدرة والاختيار، والعطاء، والفيض الإلهي في موارد الرحمة، والنعمة، والرزق والتدبير، وجميع الموارد التي يريد أن يخاطب الإنسان فيها من موقع الكبرياء، والعظمة. والعزة، والقدرة، والربوبية وشؤونها، التي تتجلى في العناية والرعاية، والتدبير، فإنه تعالى في جميع تلك الموارد يتكلم عن نفسه بكلتا الصيغتين.
ويستمر السيد جعفر مرتضى العاملي في شرح الآية الانسان 2 قائلا: وذلك لأن الأمور التي تدخل في هذا السياق على قسمين: أحدهما: ما لا بد من التدخل الإلهي المباشر فيه، ولا مجال لتوسيط أية جهة في إنجازه، وينحصر التأثير به تعالى، كالمغفرة، والجزاء الآتي على سبيل الكرامة الإلهية، وجعل الخليفة في الأرض، والاختصاص بعلم الغيب، ونحو ذلك. لا مانع من الإتيان بصيغة الجمع، كقوله تعالى: “وسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ” (آل عمران 145) وقوله: “كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ” (الصافات 105) فجاءت الآيات في هذا القسم بصيغة المفرد، فقد: قال تعالى: “وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ” (طه 82). وقال: “إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا” (المؤمنون 111). وقال: “إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة 30). وقال: “إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” (ص 71-72). وقال: “إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ” (البقرة 30). وقال: “عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ” (المؤمنون 92).