المنفى الذي في داخلي: حين يرفض الماضي أن يرحل

رياض سعد

لم يكن هناك بابٌ يفضي إلى الماضي، ولا نافذة تطلّ عليه، ومع ذلك…؛ كان في كل مكان.

في زوايا الغرفة، في شقوق الجدران، في لون الضوء المنكسر على زجاج النافذة، في الهواء الرطب الذي لا يحمل رائحة جديدة… ؛  كل شيء هنا يشبه زمنًا غادر منذ وقت بعيد ، لكنه لم يغادرني.

أنا لست في هذا الزمن، وإن جلست بين ابناءه .

أنا مخلوقٌ من زمنٍ مضى، لكنه لم يشأ أن يكتمل… ؛  زمنٌ وقع كالحصى في حذاء الوعي، لا يزعجك فقط بل يعيد تشكيلك على مهل.

لقد وقفتُ طويلاً على أطلال لحظة واحدة، حتى نبت لي جذرٌ من الندم، وأغصان من التكرار.

كلما حاولتُ أن أخطو نحو الغد، شدّني أمسٌ بأظافره الباردة، كأنّه وحشٌ نائم في ظهري يستيقظ كلما تنفست.

الماضي ليس ذكرى، بل سلطة.

سلطة لا مرئية تسحبني إلى الوراء، تغلق باب القلب، وتكسر مرآة العين.

أتذكر كيف سقطتُ؟

أتذكر الصوت، الطيف، اليد التي لم تلتقطني؟

كنت هناك، وما زلت هناك.

لم أتقدّم، لم أتراجع، بل أصبحتُ محورًا يدور حوله جرح لا يريد أن يندمل.

يحاول الناس أن يقنعوني أن أعيش، أن أضحك، أن أحب، أن أملأ فراغاتي بشيء غير العتمة.

لكنهم لا يرون ما أراه.

لا يسمعون ذلك الصوت الذي يأتي كل فجر من منطقةٍ ما في الذاكرة: “أنت هنا لأنك لم تنتهِ بعد”.

أنا لا أعيش… أنا أؤرّخ موتًا مستمرًا.

حياتي ليست حياة، بل تأجيلٌ مستمر للحظة دفني.

جربتُ كل شيء:

أن أكتب، أن أبكي، أن أضحك، أن أسافر، أن أحب، أن أنسى…

لكن الماضي، كعاشقٍ أحمق، يطرق بابي كل ليلة.

يجلس على حافة فراشي، ويسرد عليّ قصصًا أعرفها.

قصصًا كتبتها بيدي، بدمعي، بخوفي.

هل تعرف ما معنى أن تُهزم داخليًا؟

أن تكون خاسرًا حتى في أحلامك؟

أن تسير في الزمن كغريبٍ لا يحمل أوراق هوية؟

أنا هنا… في المنفى.

منفى لا تحدّه الجغرافيا ولا تطرقه الخرائط.

منفى في داخلي.

في رأسي… في ذاكرتي… في التفاصيل التي لا تراها أنت.

لقد فكرت مؤخرًا أن أختفي. لا أن أموت، بل أن أختفي كأنني لم أكن.

أترك هذا الجسد يتيه ويسير ولكن من دون روحي، فهذه الروح تتبخّر ببطء.

ليس ضعفًا… ؛ بل هو نوعٌ نادر من الإنصاف… ؛ إنصاف لذاك الطفل الذي لا زال يسكن في داخلي، والذي كبر قبل أوانه، ولم يأخذ فرصته في الصراخ.

ذاك الطفل الذي تحوّل إلى رجلٍ يكتب، لا ليحيا، بل ليُبقي جرحه حيًّا.

أكتب اليوم… لا لأداوي، بل لأشهد.

لأقول للعالم:

كنت هناك.

وهناك… ما زلتُ.