سيمياء الرقمنة في المشهد الجيوسياسي: الشرق الأوسط بين السيادة الرقمية والهيمنة الناعمة …

حسام البدري

مقدمة تحليلية: حين يتحوّل العالم إلى شاشة… والسياسة إلى بيانات…

لم يعد الشرق الأوسط مجرد رقعة جغرافية محكومة بالموارد والتحالفات، بل بات “مساحة رقمية” تُعاد فيها كتابة النفوذ بلغة المنصّات، والخوارزميات، والبُنى الرقمية المعقّدة.

التحوّل الرقمي لم يُعد قضية تقنية محضة، بل أصبح بحد ذاته منصة للصراع الجيوسياسي العالمي، حيث لا تُملى السياسات فقط عبر المؤتمرات والمعاهدات، بل تُصاغ خوارزميًا، وتُبث، وتُراقَب، وتُخترَق… وكل ذلك في الزمن الفوري.

الرقمنة كسلطة: عندما تتجاوز التكنولوجيا دور الأداة

في السياقات التقليدية، كانت الرقمنة تُقرأ كوسيلة: أداة تسهّل الاتصال، وتُسرّع القرار، وتُنظّم الإدارات.

لكن العالم الرقمي الحالي تجاوز هذا الفهم:

لقد أصبحت الرقمنة سلطة فوق الدولة، وقاعدة لإعادة تشكيل السيادة، بل وإعادة تعريف من هو “اللاعب” ومن هو “المتلقّي”.

■ من يملك البيانات… يملك التأثير.

■ من يملك المنصة… يتحكّم بالرواية.

■ ومن يُحدّد معايير الخوارزميات… يكتب سيمياء الواقع.

في هذا المشهد، تتحوّل الدول إلى “عُقد في شبكة”، وليس إلى كيانات مغلقة.

الشرق الأوسط في هندسة العالم الرقمي: ساحة مراقَبة لا فاعلية؟

المنطقة، على اتساعها وعمق تاريخها، تجد نفسها اليوم داخل بنية رقمية لم تساهم في صياغتها.

فالتحوّل الرقمي الإقليمي غالبًا ما يتم عبر بنى مستوردة،

وتقنيات مصمّمة خارجًا،

ومنصّات لا تخضع للسيادة المحلية.

فهل يمكن الحديث عن استقلال رقمي في فضاء مفتوح البيانات ومفتوح التشفير؟

هل تبقى السيادة ممكنة حين تصبح البُنى التحتية الرقمية خاضعة لإشراف دولي أو شركات عابرة للدولة؟

اللاعبون الأوروبيون: حضور رقمي دون هيمنة؟

أوروبا، رغم تقدّمها التقني في بعض القطاعات، لا تقف على قدم المساواة مع المنظومة الرقمية الأميركية أو الصينية.

ولهذا، اختارت أن تُموقع نفسها كـ”فاعل تنظيمي”:

■ حماية البيانات،

■ سياسات الخصوصية،

■ رقابة الذكاء الاصطناعي،

■ ومحاولة ضبط الشركات الكبرى.

لكن هل يكفي الإطار القانوني كي تفرض أوروبا وزنها؟

وهل تستطيع فرض معاييرها الرقمية على فضاء الشرق الأوسط دون أن تُتهم بالتدخّل الناعم أو “الهيمنة الأخلاقية الرقمية”؟

الفضاء الرقمي كمنصة للصراع الرمزي والاختراق السيادي

■ منصات التواصل ليست بريئة،

■ محركات البحث تُعيد تشكيل الإدراك،

■ شبكات المراقبة تتقاطع مع الأمن القومي،

■ والتكنولوجيا باتت جزءًا من منظومة الردع غير العسكري.

في هذا السياق، باتت الحدود لا تُرسم فقط بالجغرافيا، بل بـبروتوكولات التشفير، وأنظمة الحماية، وسرعة الوصول إلى المعلومة.

أي دولة لا تملك بنيتها الرقمية، أو لا تسيطر على مسارات تدفّق معلوماتها، هي دولة “شبه سيادية” في عالم ما بعد الحداثة.

الشرق الأوسط ومخاطر التبعية الرقمية: من السيطرة إلى الاستلاب

حين تستورد دولة بنيتها الرقمية بالكامل — من الأجهزة، إلى البرمجيات، إلى نظم التحديث — فهي تُسلّم مفاتيح قرارها إلى خارج حدودها.

ومع تطوّر أدوات الذكاء الاصطناعي والتحليل البياني، أصبحت الرقابة، والتوجيه، والتأثير، والتأطير تتم في زمن فوري، ودون الحاجة لاختراق تقليدي.

هل نعيش في المنطقة “استعمارًا رقميًا ناعمًا”؟

أم أن الرقمنة فرصة ممكنة لإعادة هندسة الذات؟

وهل تستطيع الدول العربية بناء سيادة رقمية أم ستبقى مستهلكة للبنية ومُستهلَكة بالمعطى؟

خاتمة مفتوحة: من يملك الكود… يملك القرار

في عالم تتفكك فيه السيادة الكلاسيكية، وتُكتب السلطة بالخوارزميات، لا تكفي البيانات الوطنية لتصنع استقلالًا.

الشرق الأوسط لن يتمكن من حماية قراره، إن لم يحمِ رموزه البرمجية، ومخازن معرفته، ومفاتيح شبكاته.

لم تعد الحرب تُخاض بالسلاح فقط،

بل تُخاض بالسيرفرات، وبنُظم التشغيل، وبقواعد اللعبة الرقمية.

ومن لا يعرف من أين تُدار منصاته… لن يعرف من أين يُدار مستقبله.