رياض سعد
الإنسانُ، بوصفه كائناً سرياليّاً يسيرُ على حافةِ تناقضٍ وجوديّ، يُشبهُ نجماً يبحثُ عن كوكبٍ ليُضاءَ به، في حين أن نورَه الذاتيَّ يكفيهِ – ( تحسب أنك جـــرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر ) – هو كالفراشةِ التي تحلمُ بالحقلِ والضوء ، لكنها تُدركُ أن الأزهارَ قد تكونُ أفخاخاً مُلوّنةً وقد تكون المصابيح المضيئة مهلكة … ؛ هكذا ينسجُ البشرُ علاقاتِهم كـ”شبكةِ عنكبوتٍ” كلما ازدادتْ تعقيداً، صارتْ أكثرَ هشاشةً… ؛ فالتجمعُ البشريُّ أشبهُ بباليهٍ للظلالِ : أجسادٌ تتحركُ بتناغمٍ، لكنها تختفي حين تُسلَّطُ عليها الأضواءُ.
يصفُ تولستوي في “موت إيفان إيليتش” الانسانَ بأنه *”يسقطُ في فخِّ التوقِ إلى القطيعِ، كي لا يسمعَ صرخاتِ روحهِ”*… ؛ فالطيورُ تطيرُ في أسرابٍ لتحتميَ من الرياحِ، أما البشرُ فيتجمعونَ هرباً من رياحِ الوحدةِ التي تعصفُ بقلوبِهم… ؛ لكن ماذا لو تحولَ السربُ إلى “سجنٍ زجاجيّ” كما في لوحاتِ إيشير؟
هنا يظهرُ التناقضُ الكافكاويّ: ففي “الحكم” لفرانز كافكا، يتحولُ الأبُ إلى قاضٍ، والابنُ إلى مُذنبٍ لمجردِ وجودِهما تحتَ سقفٍ واحدٍ… ؛ و هكذا تُصبحُ قوانينُ الجماعةِ سيفاً ذا حدينِ: تحميكَ من البردِ، لكنها تقطعُ ذراعَكَ إن حاولتَ الفِكاكَ.
يُمكنُ تشبيهُ التفاعلِ الاجتماعيِّ بـ”لعبةِ الشطرنجِ مع أشباحٍ”: تتحركُ القطعُ، لكنك لا تعرفُ مَن يحركُها… ؛ ففي رواية “البؤساء” لفيكتور هوغو، جان فالجان لا يخشى السجنَ بقدرِ ما يخشى نظراتِ المجتمعِ التي تحوِّلُهُ إلى رقمٍ في سجلٍّ لا ينتهي… ؛ و هكذا تتحولُ الجماعةُ إلى “مرصدٍ فلكيٍّ” يرصدُ أخطاءَ الفردِ، لكنه يعمى عن انهيارِ المجرّاتِ داخلهُ… ؛ وكما كتبتْ سيلفيا بلاث: *”أنا صندوقٌ مغلقٌ، ومفاتيحي تُشبهُ الأوهامَ”*، فكلما حاولتَ الانفتاحَ، ازدادَ إحكامُ القفْلِ.
وقد تُشبهُ العلاقاتُ الإنسانيةُ لوحةً لـ”مارك شاغال”: عشاقٌ يطيرونَ فوقَ المدينةِ، لكن أقدامَهم مُثقلةٌ بسلاسلَ غيرِ مرئيةٍ… ؛ فكما يقولُ نيرودا في “عشرون قصيدةً حبّاً وأغنية يائسة”: *”الحبُّ يُولدُ في الالتقاءِ، لكن الوحدةَ تُرضعُهُ”*… .
أما الطاقةُ السلبيةُ التي تمتصك بسبب القطيع ؛ فهي كـ”أمواجِ الراديوِ” التي تَسْرُقُ إشاراتِ الروحِ، كحالِ بطلِ “المسخِ” الذي يتحولُ إلى كائنٍ غريبٍ كلما حاولَ التواصلَ… ؛ بل إنها تُذكّرُ بـ”الآخرين” في مسرحيةِ سارتر: عيونٌ تلتهمُ الذاتَ، وضحكاتٌ تُشبهُ سكاكينَ.
في الختام، يظلُّ الإنسانُ كـ”بجعةٍ سوداءَ” في بحيرةِ الحياةِ: تسبحُ مع السربِ، لكن لونَها يخونُها… ؛ وكما كتبَ جبران خليل جبران: *”أنا أبحثُ عنكم فيّ، فأجدُ نفسي فيكم”*… ؛ فالسَّربُ قد يُحيطُكَ بأجنحةٍ، لكنه قد يقطعُ عنكَ السماءَ… ؛ والعزلةُ قد تُجبرُكَ على سماعِ صمتِكَ، لكنها تكشفُ أن الصمتَ هو اللغةُ الوحيدةُ التي لا تخونُ… ؛ وهنا تكمنُ المُفارقةُ السرياليةُ: أن تكونَ وحيداً في الزحامِ، أو مُجتمعاً في الوحدةِ!