جيوبوليتيكا التجويع: تفكيك المجال السكاني بوصفه هندسة للإخلاء الاستراتيجي

حسام البدري

حين يصبح الجوع شيفرة جيواستراتيجية

في عالمٍ تُعيد فيه الدول العظمى إنتاج الخرائط لا بالحرب، بل بنزع القدرة على الحياة، يُعاد تعريف التجويع كنسق سيادي غير معلن، لا يستهدف الجسد فحسب، بل يفاوض الروح السياسية للأمم.

فلم تعد المجاعة خللًا في سلسلة الإمداد، بل ممارسة جيوسياسية محسوبة، تتخفى تحت عباءة الإغاثة وتُدار بلغة التحكم اللين داخل الفضاء الإنساني.

إنه ردع صامت، حيث يُدار النزاع بالثلاجة الفارغة لا بالمدفع، ويُفرض التفاوض من خلال طوابير الطحين لا على طاولات جنيف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

✦ التفكيك الناعم للسيادة: الغذاء كأداة تفويض لسلطة الغائب

تتحوّل المساعدات الغذائية في مناطق النزاع إلى نظام تفويض غير معلن، تمنح فيه الهيمنة الدولية نفسها صلاحية إدارة حياة الناس اليومية، عبر التحكم بتدفق السعرات، لا بتوزيع السلاح.

وهكذا، تتحوّل كل شاحنة دقيق إلى نص سياسي:

من يُعطى الرغيف؟

من يُترك للجوع؟

ولأية منظومة ينتمي الجائع أو يُقصى عنها؟

بهذا، تُفكك الدولة من الداخل، لا بانهيار المؤسسات، بل بانهيار المائدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

✦ قانون بلا مخالب: عندما يتحوّل التجريم إلى تجميل

رغم صراحة النصوص القانونية الدولية، فإن خطاب المؤسسات الحقوقية يبدو أقرب إلى نشيد جنائزي بلا صوت في مواجهة مشهد التجويع المعولم.

المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف واضحة:

“يُحظر تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب”.
لكن ماذا حين يُبرَّر الحصار بـ”تعقيدات لوجستية”، وتُحوَّل الكارثة إلى “أثر جانبي”؟

هل ما نشهده هو موت أخلاقي للقانون؟

أم أن التجويع بات ممارسةً لا تُجرَّم لأنها لا تُعلَن؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

✦ إغاثة مشروطة: كيف تتحوّل المساعدات إلى خارطة نفوذ

حين تدخل المساعدات في هندسة السياسة، تُخضِع الكتل السكانية لتراتبية جديدة من التبعية، لا تُبنى على الحقوق بل على “مقايضة الاحتياج بالولاء”.

فتح المعبر مقابل انكفاء إعلامي.

إدخال حليب الأطفال مقابل تحييد الخطاب السيادي.

وصول اللقاحات مقابل صمت عن خروقات عسكرية.

إنها جغرافيا إنسانية مُعاد ترميزها، حيث لا تُنقل الإغاثة لإنقاذ الأرواح، بل لإعادة برمجة الطاعة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

✦ طرد ناعم: الهجرة بوصفها مخرجًا مصممًا للانهيار

ليس الهدف من سياسة التجويع مجرد فرض الهيمنة، بل تفكيك المجتمعات طوعًا، عبر خلق بيئات لا يمكن العيش فيها، تُنتج قرار الرحيل بوصفه خلاصًا وجوديًّا لا اختيارًا سياسيًّا.

وهكذا يُعاد إنتاج “الترحيل الناعم”:

لا يُقال لأحد ارحل… بل يُترك بلا سقف ولا رغيف ولا دواء.

لا يُهدَّد أحد بالموت… بل يُدفع إليه بخطى بيروقراطية باردة.

إنها هندسة الطرد اللا مرئي، حيث لا يُرتكب الفعل علنًا، بل يُسوَّق بوصفه مخرجًا إنسانيًّا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

✦ الخاتمة: هل أصبح الخبز سلاحًا استراتيجيًّا؟

في ضوء ما تقدم، تظهر التساؤلات الكبرى:

هل دخلنا عصر “الردع الإنساني” حيث يُستبدل القصف بالحصار؟

هل يمكن للقانون الدولي أن يُعيد الإمساك بخيوط الكرامة في زمن تتحكم فيه المساعدات بالأجندات؟

وهل بات من المشروع هندسيًّا، لا فقط أخلاقيًّا، أن نعيد التفكير في مفهوم الأمن الغذائي كحق وجودي لا أداة اشتباك؟

في هذا العالم،

لم يعد الجوع عارًا أخلاقيًّا،
بل بنية تحتية للصراع الجيوسياسي،
وأداة لإعادة إنتاج العالم… لا فقط لتدميره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ