تحديات التحولات الجيوسياسية: المهلة الأمريكية لروسيا، صمود إيران، وإعادة هندسة سوريا والعراق..!

كاظم الطائي

الصراع الدولي في المرحلة الراهنة تحولات جيوسياسية متسارعة ترتبط بإعادة رسم خرائط النفوذ والتحالفات بين الشرق والغرب.

في هذا الإطار، تعتمد الولايات المتحدة استراتيجية ضغوط متعددة الأوجه تستهدف روسيا وإيران وسوريا، مع محاولة هندسة مشهد سياسي جديد في العراق.

وضمن هذه المقاربة، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن مهلة زمنية تتراوح بين عشرة إلى اثني عشر يومًا لإقناع روسيا بوقف العمليات العسكرية في أوكرانيا، ملوّحًا بعقوبات إضافية في حال عدم الاستجابة. وعلى الرغم من وصف الرئيس الأوكراني هذه المبادرة بأنها “في الوقت المناسب”، إلا أن القراءة الاستراتيجية تشير إلى أنها ليست مبادرة تهدئة بقدر ما هي محاولة لتحييد الجبهة الروسية مؤقتًا، من أجل إعادة ترتيب أولويات واشنطن في ساحات أكثر حساسية، ولا سيما تجاه إيران والشرق الأوسط عمومًا.

رد الفعل الروسي على هذه المهلة كشف عن إدراك مبكر لما وصفته موسكو بـ”الخداع الاستراتيجي” الأمريكي. فقد رفضت القيادة الروسية أي جدول زمني تمليه الولايات المتحدة، وأكدت على استقلالية قرارها العسكري، مع تصعيد في الخطاب السياسي والإعلامي تجاه واشنطن. كما سارعت موسكو إلى تعزيز تحالفاتها الشرقية، خصوصًا مع إيران والصين، في رد مباشر على مساعي الغرب لعزلها جيوسياسيًا. وتدل هذه الخطوات على قناعة روسية بأن الولايات المتحدة تحاول كسب الوقت وتوجيه الأنظار إلى ملفات أخرى، في مقدمتها الملف الإيراني، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع موسكو على أكثر من جبهة.

ورغم الضغوط الأمريكية المتواصلة، تواصل الجمهورية الإسلامية الإيرانية الحفاظ على موقعها الإقليمي، مستندة إلى عدة عوامل استراتيجية. فعلى المستوى العسكري، تمتلك إيران منظومات صاروخية دقيقة وطائرات مسيّرة متطورة، فضلًا عن قدرات دفاعية وهجومية مصنعة محليًا.

أما على المستوى الاستخباراتي، فقد نفذت عمليات اختراق ناجحة لشبكات تجسس غربية وإسرائيلية، إلى جانب مراقبة دقيقة لتحركات خصومها الإقليميين والدوليين. وتعزز هذه القدرات بنية عقائدية وفكرية تمنح إيران دعمًا شعبيًا داخليًا وخارجيًا مرتبطًا بها على أسس عقائدية، مما يجعلها فاعلًا لا يمكن تجاوزه في موازين القوى.

في المقابل، تعمل واشنطن على تطويق إيران باستخدام أدوات غير مباشرة، من بينها دعم حلفاء إقليميين مثل أذربيجان، واستغلال الأزمات الاقتصادية لدفع بعض دول الجوار الإيراني إلى الانخراط في مشاريع أمريكية تهدف إلى تقويض النفوذ الإيراني. ويجري ذلك ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى شل قدرة طهران على المناورة، من خلال إحاطتها بجوار إقليمي يدور في الفلك الأمريكي.

أما في سوريا، فتسعى الولايات المتحدة إلى إضعاف بنية الدولة من خلال أدوات التفكيك المجتمعي، إذ تعمل على إذكاء الانقسامات الطائفية والعرقية داخل المجتمع السوري، كما تجلى مؤخرًا في صراعات محلية بين مكونات دينية وإثنية.

ويعكس هذا النهج نمطًا ممنهجًا شبيهًا بما جرى في لبنان والعراق، حيث يؤدي تمزيق النسيج الداخلي إلى خلق دولة هشة، تتنافس فيها القوى الداخلية على الدعم الخارجي، مما يسمح للولايات المتحدة بإعادة ترتيب المشهد السياسي بما يتوافق مع مصالحها.

وفي سياق هذه المقاربة، وبعد محاولات تحييد روسيا عن الملف السوري، بدأت واشنطن بالنظر إلى إمكانية توظيف الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، كواجهة سياسية مؤقتة لمرحلة انتقالية. ومع ذلك، لا ترى في بقاء الشرع حلًا دائمًا، إذ تعتبر أنه لا ينسجم مع المرحلة المقبلة التي تطمح إلى الوصول إليها، والتي تقوم على إعادة بناء الدولة السورية وفق نمط سياسي مختلف، ومنظومة تحالفات إقليمية جديدة أكثر انسجامًا مع السياسات الأمريكية.

وفي العراق، بات الحشد الشعبي اليوم مكوّنًا رسميًا من القوات العسكرية العراقية، يخضع لقيادة القائد العام للقوات المسلحة، ما يفرض على واشنطن مقاربة أكثر تعقيدًا في التعامل معه.

ورغم هذا الطابع الرسمي، لا تزال الإدارة الأمريكية تنظر إلى الحشد كقوة عقائدية ذات امتداد سياسي لا يمكن احتواؤه بسهولة. وتشير تسريبات وتحليلات إلى أن واشنطن تفكر بعدة سيناريوهات للتأثير على الحشد، من بينها التضييق المالي عبر التحكم في الموارد والعقود المرتبطة برواتبه، واستخدام أدوات ضغط غير مباشرة، كالإقصاء السياسي أو تقليص أدوار قادة مؤثرين فيه.

ويعزز هذه القدرة الأمريكية على التأثير ما تملكه من أدوات تحكم في النظام المالي العراقي، خصوصًا الأموال المرتبطة بعائدات النفط المودعة في بنوك أمريكية، مما يمنح واشنطن نفوذًا ماليًا قويًا يمكن توظيفه في خدمة أهدافها.

وتزداد أهمية هذه الملفات في ظل مواقف قوى إقليمية ودولية فاعلة، تتفاعل مع المتغيرات الجيوسياسية وفق منطق المصلحة الوطنية لا الاصطفاف المطلق. فتركيا، على سبيل المثال، تتبنى مقاربة براغماتية تقوم على تعظيم حضورها في شمال سوريا والعراق والقوقاز، وتحرص على موازنة علاقاتها مع روسيا من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى، مع انخراط تكتيكي في التنسيق الأمني مع إيران.

أما السعودية، فبعد سنوات من المواجهة السياسية والإعلامية مع طهران، تتجه اليوم نحو تهدئة محسوبة، مدفوعة بالتحولات الاقتصادية التي تفرضها رؤية 2030، لكنها لا تزال تحتفظ بتعاون أمني استراتيجي مع واشنطن، لا سيما في ما يخص أمن الخليج وملف اليمن.

من جانبها، تتبنى الصين نهجًا مختلفًا يعتمد على القوة الناعمة والاستثمار طويل الأمد، حيث تركز على تعزيز نفوذها عبر مبادرة الحزام والطريق، وتوقيع صفقات طاقة ضخمة مع دول المنطقة، إلى جانب تعميق شراكتها مع روسيا وإيران كجزء من استراتيجيتها لموازنة النفوذ الأمريكي، دون الدخول في مواجهات مباشرة.

في نهاية المطاف، تراهن واشنطن على أدوات النفوذ المالي والعسكري لإعادة تشكيل موازين القوى، غير أن الواقع يؤكد أن هناك قوى في المنطقة لا تعتمد على هذه الأدوات فقط، بل تستند إلى بعد عقائدي وروحي يمنحها قدرة على الثبات والاستمرار، رغم التحديات والإغراءات والضغوط. فالثبات الفكري والروحي ليس مجرد شعار، بل هو عنصر أساسي في مواجهة التحولات الكبرى، وهو ما سيبقى الضمان الأهم لصياغة مستقبل سياسي مستقل، لا تحدده إرادات الخارج وحدها، بل يتشكل من إرادة داخلية واعية متمسكة بالقيم والمبادئ.