حسين شكران الأكوش العقيلي
في بلادٍي نقشت الحضارات بصماتها على التراب قبل أن تلطخه النزاعات، تنعقد الخيوط بين الجغرافيا والذاكرة، ويستنهض التاريخ ذاكرته ليسأل حاضرنا المعطوب: أما كانت هذه الأرض مهد التشريعات الأولى؟ أما سطّر البابليون شرائع العدالة في نقوشٍ لا تزال تنطق بالحق؟ أما كانت بغداد، يوم عزّ الفكر، منارةً للعقل حين أشرقت بنور الحكمة؟
لكن المآسي لا تمحو المجد، كما أن الظلم لا يُلغي القيم المغروسة في الجينات الوطنية. فعندما نتحدث عن الإصلاح في العراق، لسنا نطلب فضلًا، بل نطالب بإعادة تفعيل وصايا الأجداد الذين صنعوا الدولة يوم كانت الفوضى هي القاعدة.
لقد مرّ العراق بمنعطفات خطيرة: من الاحتلالات المتكررة، إلى الاستبداد الحديث، إلى إرهابٍ مزق الجغرافيا وحاول قتل المعنى. ومع كل أزمة، كانت تُولد نخبةٌ تنادي بالإصلاح، وتُقصى، ثم تعود؛ لأن الحق لا يُطوى حتى لو أُحرق الورق.
اليوم، الظلم لم يعد يلبس زي الجلاد فقط؛ بل يرتدي ربطات عنق ، ويتكلم بلغة الإصلاح المزيف، ويتسلل إلى مؤسساتٍ تحرّف العدالة باسم (التوافق) ، وتشرّع الغياب باسم (المرحلة الانتقالية) .
أما الإصلاح، فيجب أن يُستمد من تلك الجذور القديمة، حين كان العراقي يرسم الخرائط، ويقسم الزمن، ويقيس النجوم. الإصلاح الحقيقي يبدأ حين نعيد الاعتبار لفكرة المواطنة، وحين يصبح القانون فوق الولاء، والمصلحة العامة فوق الانتماء الحزبي.
إننا في العراق لا نملك رفاهية الانتظار؛ لأن كل لحظة تأجيل هي امتداد لوجعٍ سابق. من يريد الإصلاح لا يطلبه من الخارج، بل يكتبه في المناهج، وينطقه في خطب الجمعة، ويزرعه في سلوك الإدارة، ويُشرّعه في برلمانٍ يسمع أكثر مما يُحاور.
فالعراق ليس عابرًا في التاريخ، بل محورًا له. وإذا أردنا الخلاص من الظلم، فعلينا أن نُعيد قراءة الدرس العباسي، ونستذكر الموقف من الاحتلال المغولي، ونستلهم صمود المدن التي قاومت ولم تخنع.
لن يكون الطريق سهلاً، لكن الأصعب هو الاستسلام للواقع، وهو ما لا يليق بوطنٍ كتب اسمه على جدران التاريخ بحروف من حضارةٍ ودم.