رياض الفرطوسي
النظام السياسي في العراق لم يتشكل بعملية تطور داخلي أو نتيجة ثورة اجتماعية تقودها الجماهير، بل جاء عبر تغيير خارجي فرضته الولايات المتحدة قبل عقدين. هذه الحقيقة تفسر كثيراً من ملامح الارتباك التي رافقته منذ البداية: غياب التوافق الوطني، هشاشة البنية، وتنازع المكونات حول الحصص والتمثيل. وما زال هذا الإرث يلقي بظلاله الثقيلة حتى اليوم.
هذا النظام، بحكم معادلة الأغلبية، يعطي مركز الثقل السياسي للشيعة عبر منصب رئاسة الوزراء. ومن هنا، يصبح دور رئيس الوزراء محورياً: إذا صلح وأحسن إدارة السلطة، يمكن أن ينعكس ذلك على كامل الجسد السياسي، وإذا أخفق، فإن ارتداد الفشل يصيب المنظومة كلها. ولهذا ظل موقع رئاسة الوزراء بؤرة الجدل، ومحطة الاختبار الأولى لمدى قدرة النظام على الاستمرار أو الانهيار.
لكن المشكلة الأعمق لا تكمن فقط في الأشخاص أو المناصب، بل في طبيعة التأسيس ذاته. التغيير الذي جاء من الخارج لم ينبع من حاجة داخلية عميقة لإصلاح المجتمع أو من ثقافة سياسية تراكمية، لذلك بقي النظام هشاً، موزع الولاءات، محكوماً بالتجاذبات. وما زاد الطين بلة هو أن كل دورة انتخابية تُنتج وعوداً جديدة تُضاف إلى أرشيف طويل من الوعود السابقة، فيما يظل الواقع ثابتاً.
أحد السياسيين المخضرمين لخص هذا المشهد بالقول إن الأزمات الحادة التي مر بها العراق لم تهدد جوهر النظام السياسي بقدر ما غيرت بعض الوجوه. مسلسل طويل من ذهاب أسماء ومجيء أخرى، لكن البنية ظلت كما هي. وهذا بالضبط ما جعل الناس يفقدون الثقة: فالوجوه تتبدل، لكن نمط التفكير وأساليب الحكم تبقى على حالها.
الأخطر أن صعود الأجيال الجديدة داخل الطبقة السياسية يتم في الغالب بحكم الولاء لا بحكم الكفاءة أو الخبرة. وهذا يعيد إنتاج نفس الذهنية ونفس الممارسات التي عطلت بناء الدولة. فبدل أن يكون النظام بوابة لولادة قيادة جديدة ذات كفاءة، أصبح ساحة لإعادة تدوير الولاءات.
النظام السياسي لا يقاس بعدد الشعارات ولا بكمية الوعود التي تُلقى قبيل الانتخابات، بل بمدى قدرة مؤسساته على تحويل هذه الوعود إلى واقع ملموس: عدالة اجتماعية، خدمات أساسية، اقتصاد منتج، وبنية قانونية قوية تحمي الجميع. ما لم يحدث ذلك، سيبقى النظام مرتهناً لموروث التأسيس الخارجي، وسيبقى المجتمع يدور في حلقة الوجوه المتغيرة والواقع الثابت.
إن التحدي الحقيقي ليس في مواجهة “مؤامرات الخارج” ولا في تكرار الحديث عن “النظام بخير”، بل في امتلاك شجاعة إعادة بناء الداخل: مجتمع متماسك، مؤسسات نزيهة، وعدالة تعطي الناس شعوراً بأن صوتهم يصنع فرقاً. عندها فقط يمكن للنظام السياسي أن يتجاوز عقدة الولادة من الخارج، ويجد لنفسه شرعية حقيقية في الداخل.