صباح البغدادي
في مسرح السياسة الدولية، تُرفع شعارات العدالة والمساواة بين الدول، لكن الواقع يكشف أن بعض الدول “أكثر سيادة” من غيرها. المشهد يتكرر بلا خجل: عندما تنتهك إسرائيل سيادة دولة عربية، يتحول مجلس الأمن إلى منصة للعتاب الهادئ، لكن عندما تلمس طائرة مسيرة روسية أجواء بولندا، تتحول القاعة إلى ساحة للتهديد والوعيد. هذه الازدواجية لم تعد خفية؛ بل أصبحت سمة أساسية في نظام دولي يشرف على تآكل شرعيته يومياً. وبينما يُدَوّي صمتُ مجلس الأمن الدولي كصَفعةٍ موجعة على وجه الضمير الإنساني والعدالة العالمي، تُنفّذ إسرائيل جرائمها بضوءٍ أخضرَ أمريكيٍّ أوروبيٍّ صارخ. ها هو المجلسُ الذي يفورُ غضبًا لو اخترقتْ طائرةٌ مسيرةٌ أجواءَ بولندا، يُرحّبُ بانتهاكِ سيادةِ الدوحةِ ببيانٍ هزيلٍ أشبهَ “بعتابِ العشاق”! هذه ليست ازدواجيةٌ في المعايير، بل هي عُنصريّةٌ دوليةٌ مُؤسساتية تُعلنُ صراحةً أن دمَ العربيِ أرخصُ من هواءِ الأوروبي. لقد سقطتْ أقنعةُ القانونِ الدولي، ولم يعدْ يُخفى أن مجلسَ الأمنِ تحوّلَ إلى مكتبٍ لتسويقِ الوهمِ وتبريرِ الإرهابِ الدولي تحتَ غطاءِ الشرعية!.
مجلس الأمن، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، مُكلَّف بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين. لكنه تحول إلى أداة وضيعة لترسيخ هيمنة القوى العظمى الدائمة العضوية. ومجرد هيكل بيروقراطي يعكس توازن القوى لا الشرعية الدولية . الفيتو الأمريكي أصبح درعاً يحمي إسرائيل من أي مساءلة حقيقية. في قضية الاعتداء على سيادة قطر، كان القصر الصادر مجرد “عتاب” لا يرتقى إلى مستوى الجريمة، بينما يُناقش أي تحرك روسي بلهجة الحرب. هذا ليس خللاً في النظام؛ بل هو النظام نفسه يعمل كما صُمم: حماية الأقوياء ومعاقبة الضعفاء.
ازدواجية المعايير: مقارنة بين حالتي قطر وبولندا
- الحالة القطرية (اختراق إسرائيلي):
- الحدث: قصف صريح لعاصمة دولة ذات سيادة وحليفة للغرب.
- رد الفعل الغربي: تلميع اللغة الدبلوماسية: “نحن ندعو إلى ضبط النفس”، “نشجع الحلول الدبلوماسية”. البيان الختامي لمجلس الأمن يُشبه رسالة عتاب الأحباب بين دبلوماسيين.
- السياق: قطر دولة مسلمة عربية، وإسرائيل حليف استراتيجي للغرب.
- الحالة البولندية (اختراق روسي):
- الحدث: اختراق طائرة مسيرة (ربما غير مقصود) لأجواء دولة عضو في الناتو.
- رد الفعل الغربي: انعقاد طارئ لمجلس الأمن، تهديدات بعقوبات اقتصادية ساحقة، وتصعيد الخطاب إلى حافة المواجهة العسكرية بين دول الاتحاد الأوربي وروسيا.
- السياق: بولندا دولة أوروبية مسيحية، وروسيا خصم استراتيجي للغرب يجب إن يتم إنهائه ومن خلال استخدام أوكرانيا كحصان طروادة لغرض انهاك الاقتصاد الروسي وأخراجه من معادلة القطب المعاكس لأمريكا ومن خلال مقولة منكم الرجال ومنا السلاح .
هذه المقارنة توضح أن قيمة السيادة تُقاس بهوية المعتدي والضحية، وليس بخطورة الفعل نفسه.
رسالة إلى القادة والزعماء والملوك العرب: السيادة تُؤخذ حتى من خلال القوة ولا تُعطى كهبة مجانية :
الدرس الواضح من هذه الأحداث هو أن الاعتراف الدولي بالسيادة لا يُمنح، بل يُفرض. إذا كان مجلس الأمن يعمل كـ”غرفة تحكم” للهيمنة الغربية، فإن على الدول العربية:
- مقاطعة القرارات الجائرة لمجلس الأمن التي تُشرعن العدوان عليها.
- بناء تحالفات بديلة مع القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا والهند، التي قد تقدم نموذجاً مختلفاً للعلاقات الدولية.
- توحيد الصف العربي لإنشاء قوة ردع عربية موحدة، لأن الأمن الجماعي هو الضمان الوحيد ضد الاختراقات الإسرائيلية المتكررة.
ازدواجية المعايير لم تعد خياراً سياسياً للغرب؛ بل أصبحت إعلاناً صريحاً بانعدام الشرعية. النظام القائم على هيمنة القوى الاستعمارية القديمة يفقد مصداقيته يوماً بعد يوم. على الدول العربية أن تدرك أن مكانتها في هذا النظام ستظل هامشية ما دامت تقبل بدور “الضحية المُستأنسة”. السيادة لا تُمنح في قاعات الأمم المتحدة؛ بل تُنتزع بالإرادة والوحدة والاستقلال.إذن، فليُدركِ القادةُ العربُ أنَّ مجلسَ الأمنِ لم يعدْ سوى مسرحِ دُمىً تُحرّكه أيادٍ غربيةٌ قذرة، وأنَّ قراراتِه ما هي إلا حبرٌ على ورقٍ يُكرّسُ الهيمنةَ ويُشرعنُ العدوان. إذا كانوا يمتلكونَ ذرةً من الكبرياء، فليتوقفوا عن انتظارِ إنصافٍ من نظامٍ عالميٍّ فاسدٍ يُصرّ على إهانتهم. الكرامةُ لا تُوهب، والسيادةُ لا تُمنح؛ بل تُنتزعُ بالوحدةِ والقوةِ والتحررِ من عباءةِ الاستعمارِ الجديد. أما إذا استمروا في الصمتِ والخنوع، فليتأكدوا أن تاريخَ الأمّةِ سيلعنُهم كخونةٍ وقفوا متفرجينَ بينما تُباعُ أرضُهم وتُنهبُ كرامتُهم في سوقِ النخاسةِ الدولية! لقد حانَ وقتُ الثورةِ على هذا النظامِ العالميِّ الزائف، فإما الكرامةُ وإما المذلةّ.
كلمة أخيرة نوجهها بعد أن طفح الكيل : إذا كانت الدول الغربية ومن ورائهم أمريكا وإصرارهم على معاملة الدول العربية كـ”تلاميذ في فصل دراسي”، فربما حان الوقت لترك هذه المدرسة والالتحاق بأكاديمية أخرى، أو بناء مدرسة جديدة قائمة على المساواة والاحترام المتبادل. السيادة كرامة لكل قائد ومواطن عربي .. والكرامة لا تباع أو تشترى ولا تُساوم في سوق النخاسة السياسية الدولية .