حسين شكران الأكوش العقيلي
في قلب التجربة الإسلامية، لم تكن السلطة مجرد ممارسة للحكم، بل كانت اختبارًا أخلاقيًا ومعرفيًا لمدى التزام الإنسان بالعدل، ووعيه بموقعه من الأمة، ومسؤوليته أمام الله والتاريخ. ومنذ اللحظة التي نزل فيها الوحي، بدأ النص القرآني في رسم ملامح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ليس بوصفها علاقة طاعة عمياء، بل بوصفها عقدًا أخلاقيًا مشروطًا بالعدل، والمساءلة، والمشاركة الواعية.
لقد انشغل الفقه الإسلامي عبر قرونه الأولى بتحديد صلاحيات الحاكم، وواجبات الأمة، ومفهوم الشورى، وحدود الطاعة، لكنه لم يكن خطابًا سلطويًا كما يُروّج له في بعض القراءات المتأخرة. بل كان في جوهره دعوة إلى بناء مجتمع راشد، تُمارس فيه السلطة بوصفها خدمة، لا امتيازًا، وتُمارس فيه الرقابة بوصفها واجبًا جماعيًا، لا تمرّدًا.
إن النصوص المؤسسة في القرآن والسنة لم تُعطِ الحاكم سلطة مطلقة، بل قيدتها بمقاصد الشريعة، وبالعدل، وبالرضا العام. فالنبي ﷺ قال: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) ، وهي عبارة تختزل فلسفة الرقابة في الإسلام، حيث لا أحد فوق المساءلة، ولا أحد خارج دائرة المسؤولية. بل إن الخلفاء الراشدين أنفسهم كانوا يُحاسبون علنًا، ويُسألون عن أموالهم، وعن قراراتهم، في مشهد سياسي نادر في تاريخ البشرية.
لكن هذا النموذج لم يستمر طويلًا. إذ سرعان ما تحوّلت السلطة إلى ملك عضوض، وتراجعت الرقابة إلى هامش التاريخ، وبدأ الفقه السلطاني في إعادة تأويل النصوص لتخدم منطق الهيمنة، لا منطق الخدمة. وهنا بدأت أزمة الفقه الإسلامي، حين انفصل عن الواقع، وبدأ يُبرّر الاستبداد، بدلًا من أن يُقاومه.
إن العودة إلى النص المؤسس لا تعني استنساخ الماضي، بل تعني استعادة روحه، وتحرير الفقه من التوظيف السياسي، وإعادة بنائه على أسس عقلانية ومقاصدية، تُراعي تغير الزمان والمكان، وتُعيد الاعتبار لدور الأمة في صناعة القرار. فالرقابة في الإسلام ليست وظيفة نخبوية، بل هي حق جماهيري، يمارسه الفرد والمجتمع، عبر النصيحة، والمساءلة، والمشاركة السياسية الواعية.
وفي هذا السياق، لا بد من إعادة بناء مفهوم الدولة في الفقه الإسلامي، بوصفها دولة قانون، لا دولة شعارات. دولة تُحاسب فيها السلطة، وتُصان فيها الحقوق، وتُمارس فيها الرقابة بوصفها ضمانة للعدالة، لا تهديدًا للاستقرار. وهذا يتطلب فقهًا جديدًا، يُزاوج بين النص والمقصد، بين التراث والواقع، بين الأصالة والتجديد.
إن مشروع الدولة العادلة في الإسلام ليس حلمًا طوباويًا، بل هو إمكانية واقعية، إذا ما تحرر الفقه من سطوة السلطة، وإذا ما استعاد المفكرون والمصلحون دورهم في بناء خطاب سياسي أخلاقي، يُخاطب الإنسان بوصفه شريكًا، لا تابعًا، ويُعيد الاعتبار لفكرة الأمة بوصفها مصدر الشرعية، لا مجرد جمهور يُصفّق.
وفي هذا الإطار، أجد أن الفقه الإسلامي، رغم ما تعرض له من تشويه وتوظيف، لا يزال يحمل في جوهره بذور الإصلاح، إذا ما أُعيد قراءته بعين نقدية، وبعقل مقاصدي، وبروح إنسانية تؤمن بأن العدل هو جوهر الدين، وأن السلطة بلا رقابة هي فساد، وأن الرقابة بلا مشاركة هي عبث.
إنني، كمفكر إصلاحي، أؤمن بأن الطريق إلى الدولة العادلة يبدأ من تحرير النص من التوظيف، وتحرير الفقه من الجمود، وتحرير الأمة من الخوف. فليس في الإسلام ما يُبرّر الاستبداد، وليس في النص ما يُعطّل العقل، وليس في التاريخ ما يُلزمنا بتكرار الأخطاء.
بل في الإسلام ما يُلهمنا لبناء دولة تُحاسب فيها السلطة، وتُصان فيها الكرامة، ويُمارس فيها المواطن دوره الكامل، بوصفه شريكًا في صناعة المصير، لا مجرد متلقٍ للقرارات.
وهذا هو جوهر الإصلاح الذي أنشده، وأدعو إليه، وأراه ممكنًا، إذا ما اجتمع النص، والعقل، والإرادة.