حسين شكران الاكوش العقيلي
في ظل تعقّد المشهد القانوني وتداخل المرجعيات الفكرية والدينية، يبرز كتاب “القتل العمد في الفقهين الإمامي والحنفي وطرق تنفيذه في القانون العراقي” بوصفه محاولة علمية جريئة لإعادة بناء الفهم التشريعي للجريمة والعقوبة، على أسس تجمع بين العمق الفقهي والدقة القانونية. هذا الكتاب لا يكتفي بعرض الآراء الفقهية، بل يتجاوز ذلك إلى تحليل العلاقة المتوترة بين النصوص الدينية والتطبيقات القانونية، ساعيًا إلى إحياء الفقه المقارن كأداة إصلاحية قادرة على خدمة العدالة، لا مجرد تراث يُحفظ في بطون الكتب.
ينطلق المؤلف من سؤال جوهري: هل يستطيع الفقه الإسلامي، بكل تنوعه المذهبي، أن يُسهم في بناء تشريع جنائي عادل؟ وهل يمكن للقانون العراقي أن يستوعب هذا التعدد دون أن يفقد توازنه؟ ومن هنا تبدأ رحلة مقارنة دقيقة بين الفقهين الإمامي والحنفي، لا بهدف إبراز الاختلافات فحسب، بل لتوضيح كيف يمكن لهذا التعدد أن يُثري التشريع، ويمنحه مرونة أكبر في التعامل مع الجريمة والعقوبة.
في الفقه الإمامي، يُشترط في القتل العمد توفر النية المباشرة والآلة القاتلة بطبيعتها، مما يمنح الجريمة طابعًا شخصيًا ويُعلي من شأن حق أولياء الدم في تقرير المصير، سواء بالقصاص أو العفو أو الدية. أما الفقه الحنفي، فيُقدم تصنيفًا أكثر تفصيلًا، يُميز فيه بين العمد وشبه العمد والخطأ، ويُراعي في التكييف ظروف الفعل وطبيعة الوسيلة، مما يفتح المجال أمام بدائل للعقوبة الحدية، ويُعزز من حضور الرحمة في التشريع.
هذا التباين الفقهي لا يُعد تناقضًا، بل هو تعبير عن عمق الاجتهاد الإسلامي وقدرته على استيعاب التنوع البشري والاجتماعي. غير أن القانون العراقي، رغم تأثره الجزئي بالفقه الإسلامي، لا يُفصل في هذه المسائل بنفس الدقة، بل يُغلب عليه الطابع العقابي، ويُجيز تنفيذ الإعدام دون مراعاة كافية للبعد الفقهي أو الأخلاقي، مما يُثير تساؤلات حول مدى إنسانية هذا التشريع، وقدرته على تحقيق الردع دون أن يُفقد العدالة معناها.
الكتاب لا يكتفي بتشخيص المشكلة، بل يُقدم رؤية إصلاحية واضحة تدعو إلى مراجعة النصوص القانونية العراقية، بما يراعي التعدد الفقهي ويُعيد الاعتبار للقصاص والعفو كأدوات عدالة تصالحية. كما يُقترح تطوير آليات تنفيذ العقوبة لتكون أكثر انسجامًا مع روح النص الشرعي، وأكثر احترامًا لكرامة الإنسان، وأقل خضوعًا للسلطة التنفيذية المطلقة.
إن هذه القراءة تُعيد التأكيد على أن الفقه المقارن ليس ترفًا علميًا، بل ضرورة تشريعية، وأن العدالة لا تُبنى على النصوص وحدها، بل على فهمها وتطبيقها في سياق إنساني واجتماعي. كما تُبرز أن القانون، حين يُفصل عن الفقه، يُفقد جزءًا من روحه، وحين يُفصل عن الإنسان، يُفقد كل معناه.
وفي خاتمة هذا العمل، يُمكن القول إن كتاب “القتل العمد في الفقهين الإمامي والحنفي وطرق تنفيذه في القانون العراقي” يُمثل مساهمة نوعية في بناء خطاب قانوني إصلاحي، يُغادر الجمود، ويحتكم إلى العقل، ويخدم النزاهة والوحدة، ويُعيد بناء العلاقة بين النص والتطبيق على أسس علمية وإنسانية. وهو دعوة مفتوحة لإعادة التفكير في التشريع، لا بوصفه أداة ضبط، بل بوصفه تعبيرًا عن قيم المجتمع، ومرآة لضميره الحي.
—