من الخلاف إلى التكامل: قراءة في وظائف الفقه المقارن  

حسين شكران الأكوش العقيلي

في هذا العصر الذي تزداد فيه الانقسامات الفكرية والدينية، وتتعالى فيه الأصوات المتضادة التي تكرّس التفرقة، يصبح من الضروري البحث عن أدوات فكرية تساعد على تهدئة هذا التوتر وإعادة التوازن إلى الخطاب الإسلامي. وهنا يظهر الفقه المقارن كأداة مركزية، ليس فقط كعلم يُدرّس في الجامعات، بل كمنهج حضاري عميق يعيد بناء العلاقة بين المذاهب الإسلامية المختلفة على أساس الفهم والتكامل، لا على أساس الصراع والإقصاء.

فالفقه المقارن لا يكتفي بعرض اختلافات الفقهاء، بل يسعى إلى فهم أسبابها وسياقاتها، مما يفتح المجال أمام العقل المسلم ليُدرك أن التعدد الف دليل على حيوية الفكر الإسلامي وقدرته على استيعاب الواقع المتنوع. ومن خلال هذا المنهج، يمكن للخطاب الإسلامي أن يتحرر من ضيق التعصب والانغلاق، ويتجه نحو أفق أوسع من التفاهم والتكامل بين المدارس الفقهية، مما يعزز الوحدة الفكرية دون أن يُلغي التنوع المشروع.

الفقه المقارن ليس ترفًا علميًا، بل ضرورة إصلاحية. إنه لا يكتفي بعرض الأقوال الفقهية المختلفة، بل يسعى إلى فهم السياقات التي أنتجتها، وتحليل البُنى الفكرية التي تقف خلفها، ليكشف بذلك عن عمق التنوع داخل التراث الإسلامي، لا بوصفه انقسامًا، بل كدليلٍ على حيوية الاجتهاد. ومن هنا، فإن الفقه المقارن لا يُعنى فقط بما قيل، بل بكيفية القول، وبمنطقه، وبمآلاته، وبقدرته على خدمة الإنسان في واقعه المتغير.

من ينظر إلى الفقه المقارن بعينٍ إصلاحية لا يكتفي بمجرد استعراض الفروقات بين المذاهب الإسلامية، كما لو كانت مجرد جداول مقارنة أو اختلافات شكلية في الأحكام. بل يتجاوز ذلك إلى طرح أسئلة جوهرية تمس جوهر المنهج الفقهي نفسه. فهو لا يسأل فقط: (ماذا قال هذا المذهب أو ذاك؟) ، بل يتأمل في الطريقة التي نقترب بها من النصوص الدينية، وفي الكيفية التي نفهم بها الواقع المتغير، وفي العلاقة المعقدة بين النص الشرعي من جهة، والواقع الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى.

هذا التأمل لا يحدث في فراغ نظري، بل ينبثق من حاجة حقيقية يعيشها المسلم اليوم، الذي يواجه خطابًا دينيًا مكررًا، لا يجيب عن أسئلته، ولا يواكب تحولات حياته. فالمسلم المعاصر لا يبحث عن تكرار الأقوال القديمة، بل عن فهم جديد يمنحه أدوات التفكير، ويعينه على تجاوز الجمود، ويدفعه نحو بناء وعي ديني أكثر نضجًا ومرونة.

وهنا تبرز أهمية الفقه المقارن كمنهج نقدي وتحليلي، لا يكتفي بتوثيق الاختلاف، بل يسعى إلى فهم أسبابه، وتفكيك بنيته، وإعادة بناء العلاقة بين النص والواقع بطريقة متوازنة، لا تُغرق في النص وتُهمل الإنسان، ولا تُغرق في الواقع وتُهمّش الوحي. إنها دعوة إلى إعادة التفكير، لا في الأحكام فقط، بل في المنهج الذي أنتجها، وفي العقل الذي تبنّاها، وفي الغاية التي تسعى إليها.

لقد ظلّ الخطاب الديني في كثير من السياقات حبيسًا لثنائية (الصواب والخطأ) ، (الحق والباطل) ، دون أن يُدرك أن الفقه المقارن يُعيد تشكيل هذه الثنائية، لا بنفيها، بل بتعميقها. فهو يُظهر أن الحق قد يتعدد في صورٍ مختلفة، وأن الباطل ليس دائمًا نتاجًا لسوء النية، بل قد يكون نتيجةً لسوء الفهم أو ضيق الأفق. ومن هنا، فإن الفقه المقارن يُعلّمنا التواضع المعرفي، ويُربينا على أدب الاختلاف، ويُدربنا على فن الإنصات للآخر، لا بوصفه خصمًا، بل شريكًا في البحث عن الحقيقة.

حين يُمارَس الفقه المقارن بصدق علمي ونية إصلاحية، فإنه يتحول من مجرد استعراض نظري للمذاهب إلى عملية إحياء حقيقية للفقه الإسلامي، بوصفه علمًا نابضًا بالحياة، لا مجرد تراث محفوظ في الكتب. إنه يحرر الفقيه من الانغلاق داخل حدود مذهبه، ويفتح أمامه آفاقًا أوسع للتأمل والاجتهاد، بحيث لا يكون أسيرًا لما قيل سابقًا، بل شريكًا في إنتاج فهم جديد يستجيب لتحديات العصر.

هذا المنهج لا يكتفي بتطبيق النصوص كما هي، بل يُعيد النظر في كيفية تفاعلها مع الواقع المتغير، ويُعامل الفقه كفنٍّ لفهم الإنسان، لا كقالبٍ جامد يُفرض عليه. فالفقه المقارن يُعيد ربط الأحكام الشرعية بالحاجات الإنسانية المتجددة، ويمنح الفقيه أدوات لفهم المجتمع، وتحليل الظواهر، واستنباط حلول تتسم بالمرونة والواقعية.

ومن هنا، فإن الفقه المقارن لا يُستخدم فقط لفهم ما جرى في الماضي، بل يُوظف لبناء المستقبل. إنه لا يكتفي بتوثيق الاختلافات، بل يُنتج وعيًا جديدًا يُمكّن الأمة من تجاوز الجمود، والانطلاق نحو خطاب ديني أكثر نضجًا، وأكثر قدرة على خدمة الإنسان في واقعه، دون أن يتخلى عن أصالته أو يُفرّط في مبادئه.

في ظل واقعٍ فكريٍ ودينيٍ متشظٍ، تبرز الحاجة الملحّة إلى تجديد الخطاب الفقهي، لا عبر إلغاء المذاهب أو إذابتها في وحدة قسرية تُفقدها خصوصيتها، بل من خلال إعادة تنظيم العلاقة بينها على أساس من التكامل والتفاعل الإيجابي، لا على أساس التنازع والتنافر. المطلوب ليس توحيدًا شكليًا يُقصي التعدد، بل اعترافًا بأن هذا التعدد هو جزء من ثراء التجربة الإسلامية، وأنه يمكن أن يتحول من مصدر للانقسام إلى طاقة خلاقة تُغني الفكر وتُعمّق الفهم.

وهذا التجديد لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الفقه المقارن، الذي يُعلّمنا أن الاختلاف ليس عيبًا يُخجل منه، بل دليل على حيوية العقل المسلم، وأن الوحدة لا تُبنى على إنكار الآخر، بل على الاعتراف به، واحترام منطقه، وفهم دوافعه. كما أن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من معارك الإقصاء، بل من لحظة الفهم العميق، التي تُعيد ترتيب الأولويات، وتفتح المجال أمام الحوار البنّاء.

وفي ظل التحديات المعاصرة التي تواجه المجتمعات الإسلامية، من أزمات الهوية إلى الاستقطاب السياسي والاجتماعي، يصبح الفقه المقارن ضرورة حضارية، لا مجرد تخصص أكاديمي. إنه منهج يُمارس في الواقع، لا يُدرّس فقط في القاعات، لأنه يُعيد بناء العلاقة بين الدين والواقع، وبين النص والإنسان، وبين المذاهب والهوية الجامعة التي تتجاوز الانقسام وتحتضن التنوع.

لكن هذا التحول لا يمكن أن يتم ما لم نتحرر من أسلوب التلقين، ومن النزعة التقريرية التي تُقدّم الأحكام وكأنها حقائق نهائية لا تقبل النقاش. الفقه المقارن يدعونا إلى التحليل، إلى التأمل، إلى مساءلة المسلّمات، وإلى إعادة التفكير في الطريقة التي نُنتج بها الفهم الديني، بحيث يصبح أكثر صدقًا مع الإنسان، وأكثر قدرة على مواكبة الواقع.

إن علم الفقه المقارن في جوهره  ليس مجرد علم يُصنّف الأقوال، بل هو موقف أخلاقي ينبع من التواضع، ومن الاعتراف بأن الحقيقة لا تُحتكر، وأن الفهم لا يُختزل في رأي واحد، وأن الإصلاح لا يُفرض من فوق، بل يُبنى من داخل المجتمع، بالحوار، بالإنصات، وبالقدرة على تجاوز الذات والهوى.

وعندما يُفهم الفقه المقارن بهذا العمق، يتحول من أداة للتمييز بين الأقوال إلى وسيلة لبناء الإنسان، إلى جسر حضاري يعيد وصل ما انقطع بين المذاهب، ويُرمم ما تهدّم في الخطاب الديني، ويُحيي ما خفت من روح الاجتهاد. إنه علم يُعلّمنا كيف نختلف دون أن نتنازع، وكيف نتكامل دون أن نذوب، وكيف نُصلح دون أن نفرض، وكيف نبني خطابًا دينيًا جديدًا، أكثر رحابةً، وأعمق فهمًا، وأصدق انتماءً للإنسان وللحقيقة.