رياض سعد
لم أكن أعرف أن الأرواح تُزرع في الأرواح كما تُزرع البذور في تربةٍ عطشى، حتى أهدتني السماء أولى خفقات النور، تلك التي سُمّيت ابنتي، لكنها كانت في حقيقتي أنايَ الأخرى.
كانت عيني حين أُغمض عيني، وأنفاسي حين يضيق صدري، وندى روحي حين يجف العمر… ؛ كلما ضحكت تساقطت من فمها نجوم صغيرة، وكلما نظرت في عينيها رأيت المرايا القديمة التي خبّأت وجهي فيها طفلاً لا يكبر.
كنتُ أُطوّقها بالحب كما يطوّق الغيمُ قمّة جبلٍ وحيد، وكانت تطوّقني بالبراءة كما يطوّق الطينُ شجرةً لم يقطعها الفأس بعد … ؛ لم أكن أجرؤ على مفارقتها، لأنها لم تكن جزءًا من حياتي، بل كانت الحياة كلّها.
لكن الزمن، ذلك الجزار الأعمى، خرج عليّ من غياهب الغيب، وأمسك بها من بين يديّ كمن يُنتزع الضوء من القنديل… ؛ رأيتُها تتألم صامتة، تبتسم كي لا أتهشّم، وتقرأ آيات الكتاب وكأنها تكتب وصيتها في الهواء.
كنت أختلس النظر إليها، وأخفي دمعي كما يُخفى سيف الصدق بين أكوام الزيف، وهي تدير رأسها يمنةً ويسرة، كأنها تتوجع نيابةً عني.
وحين حان الرحيل، لم تُطلق صرخةً ولا وداعًا.
سقطت من يدي كما تسقط النجمة في قاع السماء، وتركتني في مواجهة ليلٍ لا فجر له… ؛ سمعتُها تقول بصوتٍ لا يسمعه أحد سواي: “اصبر، فأنا ذاهبةٌ إلى حيث جئنا، وسأنتظرك هناك”.
ومنذ تلك اللحظة، صرتُ أعيش بين الأرض والسماء، نصفُ قلبي مدفون في التراب، والنصف الآخر عالق في الفضاء… ؛ الليل عندي بلا قمر، والنهار بلا شمس… ؛ كل الطرق تقودني إليها، وكل الأبواب تُفضي إلى غيابها.
أراها في الحلم تلوّح لي من بعيد، تضحك كما اعتادت، ثم تختفي في الضباب، تاركةً لي غصّةً بحجم مجرّة… ؛ وفي كل مرة أستيقظ، أشعر أن قلبي قد لُسعته أفعى سوداء، لا تموت سمومها ولا يهدأ وجعها.
أي ابنةٍ تلك التي كانت أبيها وأمها في آنٍ واحد؟
أي فرعٍ ذاك الذي احتوى أصله؟
أي روحٍ تلك التي ضحّت بروحها لأجل أن أظل واقفًا على هذه الأرض، أعوي في الليل وأبتسم كذبا في النهار؟
لقد رحلت، لكنني ما زلت أحيا بها، وأمشي في أثرها كما يمشي عاشقٌ خلف طيف حبيبته في الصحراء، ظانًا أن السراب ماء.
…………………………………
*سأعيد صياغة المراثي مرارا ؛ حتى يجف حبر روحي , وتفنى كلمات قلبي المصاب بجراح الدهر وحراب الزمن .