الكاتب رياض الفرطوسي
في عالمٍ يصرخ بالحق… ويُكمَّم بالصمت.
في زمنٍ تُرفع فيه الأيادي في الأمم المتحدة تنديداً بالحرب، بينما ترتفع الصواريخ في السماء نفسها تمزّق ما تبقّى من إنسانية هذا الكوكب.
العالم اليوم يبدو كجسدٍ مريضٍ يعرف علّته… لكنه عاجز عن مداواتها.
منذ شهور، والعالم يصحو على صور الموت القادمة من فلسطين.
الأطفال، الركام، الدماء التي تملأ الشاشات، والضمائر التي تفيض غضباً ولا تفعل شيئاً.
شعوب الأرض، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، تخرج إلى الشوارع، تهتف: أوقفوا الحرب!
لكن الحرب لا تتوقف.
الأصوات تُدوّي، والقرارات تُسنّ، والإدانات تُتلى… ثم يُعاد كل شيء إلى صمته الأول، كأن شيئاً لم يكن.
لقد قال العالم كلمته، بأغلبيته الساحقة:
ضد الحرب، ضد الاحتلال، ضد المجازر.
صوّتت الأمم، تحدث القادة، وقّعت العرائض، قُطعت العلاقات، وتراجعت الثقة.
ومع ذلك، تستمر الحرب.
فمن إذاً يُدير هذا العالم؟
ومن يمتلك الزرّ الذي يوقف القتل أو يُطلقه؟
من يوقف الحرب؟
العالم الذي نراه ليس هو العالم الذي نعيش فيه.
ما يُعرض على الشاشات ليس الحقيقة، بل مسرحٌ كبير تُدار كواليسه في غرفٍ مغلقة، حيث لا تُرفع الأيادي للحق، بل تُرفع للأرباح.
الإنسانية تُقتل اليوم لا في فلسطين وحدها، بل في ضمير العالم بأسره.
وحين يقف المليار مسلم، ومعهم الملايين في أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا، ليقولوا “كفى”، ثم لا يتغير شيء، فالمسألة لم تعد عن حربٍ هنا أو هناك، بل عن نظامٍ عالميٍ كاملٍ فقد روحه.
من يسير هذا العالم ليس العدالة، بل القوة.
ومن يكتب التاريخ ليس الضحايا، بل من يملك السلاح والكاميرا والبنك.
العالم اليوم ليس أعمى، بل متعمّد العمى؛ يرى الحقيقة، يخافها، ويتظاهر بأنه لا يراها.
وما أشد المفارقة!
حين تُدين فرنسا الحرب وتطالب بدولة فلسطينية، وحين تعلن بريطانيا اعترافها، وحين تتحدث الشعوب الأمريكية عن الظلم باسم الحرية — ومع ذلك تبقى الطائرات في الجو، والدم في الأرض، والسكوت في العواصم.
هنا تنكشف الحقيقة المرة: أن القرار ليس في يد من يُدين، بل في يد من يُموّل ويُسلّح ويُحصي الأرباح.
العالم يشبه اليوم رجلًا فقد السيطرة على قدميه لكنه ما زال يصر على الركض.
ضميراً يعرف أنه كاذب لكنه يواصل الخطابة عن الأخلاق.
وإمبراطوريةً تتهاوى لكنها تظن نفسها خالدة.
لقد صار السؤال الأهم ليس: لماذا تستمر الحرب؟
بل: لماذا لا يستطيع العالم إيقافها؟
والجواب مرّ وواضح: لأن من يسير هذا العالم ليس البشر، بل المصالح.
ليس الضمير، بل السوق.
ليس العدالة، بل موازين القوة.
ومع ذلك، يبقى بصيص الضوء.
فكل مرة يصرخ فيها طفلٌ في غزة، وكل مرة يرفع فيها شابٌّ لافتةً في باريس أو نيويورك، وكل مرة تُكتب فيها كلمة صدق في وجه هذا الظلم — تتصدّع جدران الصمت قليلًا.
وربما يوماً، حين ينهار آخر جدار، سيكتشف العالم أنه لم يكن بحاجة إلى “قوةٍ عظمى” كي يُغيّر، بل إلى ضميرٍ عظيم.